في كل رمضان نتذكّر عدم تطوّر الإنشاد الدينيّ، تاريخنا الموسيقيّ يدعو إلى المراجعة. ردّ البعض جاهز: أيّ مجال قد تطوّر؟ حرام تحميل الوسط الموسيقيّ وحده مسؤولية الاستهتار بالقيم الموسيقية الرفيعة. العالم العربيّ مسؤول عن انعدام وجود الفلاسفة والمفكرين، والقلّة الموجودة فاقدة الريادة، ولم يكن لها، قط، توجيه فكريّ وفلسفيّ يوجد تحقيقات وبحوثاً موسيقيّة. إضافة إلى الذين حكموا طوال القرون على الموجود أمام أعينهم، ولم يطرحوا البديل الراقي، وقاسوا عليه بطريقة تعميمية، كان لها أثر سلبيّ في أذهان الناس. هذا شبيه بأن يصدر قانون يمنع الطباعة، لأن مطابع نشرت مطبوعات مخالفة لقيم المجتمع. ما ذنب الأدوات؟ نعرّج على تطوّر الموسيقى الغربية الذي أوصلها إلى القمم الكلاسيكية، وكيف قام على علم وقيم روحيّة. ننطلق من أثينا القديمة، لعدم وجود المراجع الكافية في مصر ووادي الرافدين. لقد كان الفلاسفة اليونانيون، فيثاغورس مثلاً، يؤمنون بأن الكون نظام متناسق متوافق، فكلمة كون لديهم كوسموس فيها الجمال والهارموني. (من هنا أخذت مستحضرات التجميل: cosmetics، والجراحة التجميلية: cosmetic surgery). وهكذا ربطوا الموسيقى بعلم الفلك، واشترطوا أن تكون الصلة هي الرياضيات. ومن هنا قامت أسس ثلاثة، انتقلت عبر روما إلى القرون الوسطى وعصر النهضة: الموسيقى الكونيّة، والموسيقى البشريّة التي تربط الجسد بالروح، وموسيقى الآلات التي تؤدّى ونسمعها. على تلك الأسس أقام مؤسس البروتستانتيّة مارتن لوثر (القرن السادس عشر) منظومة قيم لهذا الفن، وكان مؤلفاً موسيقيّاً، بل إنه أوصى بضرورة تدريسها للأطفال. وعندما نرى الدور التاريخي لجان سباستيان باخ (القرن الثامن عشر) في الموسيقى الكلاسيكية، يجب أن نعلم أنه سار على نهج لوثر. الطريف هو أن النهر الموسيقيّ الحافل بالفلسفة والرياضيات في الحضارة الإسلامية، أجراه مغوليّ تركيّ كان منصفاً في اسمه: محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان، المعروف بالفارابي (كازاخستان حاليّاً)، بأعظم كتاب في الموسيقى العربية: الموسيقيّ الكبير. ولكن هذا النهر حدث له ما حدث للربيع العربيّ، حوّلوا مجراه، وها نحن نرى الهبوط لولا بضع عشرات من سني القرن العشرين. لزوم ما يلزم: هل لدينا رؤية كونيّة للموسيقى، قائمة على الرياضيات والفيزياء، وتستمد روحها من جمال الخلق العظيم؟ لو كان لنا ذلك ما كان الهبوط يصعد. abuzzabaed@gmail.com