×
محافظة مكة المكرمة

العراق يلغي ثلث مشاريع 2016 ويستدين لدفع أجور القطاع العام

صورة الخبر

مشكلة العرب، ومعهم غالبية المسلمين، تكمن في إدمانهم على التقوقع في سجن التاريخ والجغرافيا وعجزهم عن فك أسرهم وتحرير أنفسهم من رق هذا الندب والبكاء على الأطلال واجترار أحقاد الماضي الدفينة وعقده، ثم الاستجابة عند أول هبة ريح لدعوات الثأر والانتقام من أشباحه والتفاعل مع مؤامرات الأعداء بالتطوع لتنفيذ مآربهم وارتكاب خطأ الانتحار الجماعي ونحر الأمة بماضيها وحاضرها ومستقبلها. ففي التاريخ، لا يمر يوم إلا ويجري فيه تذكيرنا بحروب وحوادث وقعت قبل أكثر من 1400 سنة أو أكثر للتحريض وشحن النفوس والعواطف وإيقاظ غرائز وعداوات وأحقاد، وتحميل هذا الطرف أو ذاك المسؤولية ما جرى، حتى وإن كان عابراً أو كانت دوافعه وأسبابه معروفة ومرتبطة بظروفها وتوقيتها. من هنا يمكن فهم خلفيات الاضطرابات وأعمال العنف والحروب والثورات، وصولاً إلى الفتن الطائفية والمذهبية والدينية والعرقية التي نكتوي بنيران مآسيها في هذه الأيام السود ونقف بسببها على حافة الانهيار وتقسيم الدول وتفتيت الأمة، بعدما نجح المغرضون في نقل آثام الماضي وخطاياه إلى الأجيال المتعاقبة، جيلاً بعد آخر. ومع عقد التاريخ وفخ وقوع العرب أسرى غياهبه، تسير في خط مواز له عقد الجغرافيا وأولها عقدة الجيران، الأصدقاء و «الأعدقاء» والأعداء على حد سواء، إذ تآمر من رسم الحدود من سايكس - بيكو وغيرهما على ترك صواعق تفجير في كل دولة، إضافة الى مطامع التوسع والهيمنة والتدخلات المستمرة في الشؤون الداخلية مع سعي السمك الكبير إلى التهام السمك الصغير، والبقية معروفة. وشاء القدر أن تحيط بهذه الأمة قوى إقليمية فاعلة ولها أطماع فيها، ولم تخفِ يوماً تحركاتها ونياتها الخبيثة للسيطرة عليها أو على الأقل الهيمنة على مقاديرها وسلب ثرواتها. والأخطر من ذلك زرع إسرائيل في خاصرة العرب لتقطع خطوط تواصل مصر من جهة، وبقية الدول العربية في الشام والخليج من جهة أخرى، إضافة إلى حروبها المتواصلة لإنهاك العرب وتآمرها لإشاعة الفتن وتقسيم دولهم. وبدل التعايش مع الواقع والسير في مسارين متلازمين هما: توحيد الصفوف والطاقات، والإعداد لقوة موحدة رادعة في وجه إسرائيل وكل طامع وإقامة علاقات حسن جوار طبيعية ومتوازنة من موقع الند للند مع القوى الإقليمية الأخرى، سار العرب في اتجاهين معاكسين: تشرذم وخلافات وحروب ومؤامرات وقطيعة، وعلاقات متوترة وجامدة وجاثمة على صفيح ساخن تتعرض للاشتعال عند أول هبة ريح. ولا نحمّل العرب كل المسؤولية عن ذلك، لكن ما يتحملونه هو عدم انتهاج سبل الحكمة والمرونة والتعامل مع وقائع التاريخ والجغرافيا بحنكة وهدوء لأن مطامع الآخرين غير مخفية، بل إن بعضهم كشر عن أنيابه في مناسبات كثيرة، خصوصاً خلال السنوات الأخيرة ظناً منه أن الوقت حان لقطف الغنائم وتقاسم تركة «الرجل العربي المريض». هذا الواقع المؤلم يستوجب على كل من له علاقة بالحل والربط في السياسة أو في الإعلام العمل على وضع اليد على مواطن العلل ودراسة الأسباب والاعتراف بالخطايا ووصف الدواء الناجع. فالوضع لا يحتمل التأجيل واللامبالاة، ولا التباطؤ والتواطؤ، بل يتطلب نهوضاً عاجلاً وجهوداً جبارة لمواجهة الأخطار وإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتأمين مصير العرب ومقدرات أوطانهم ومستقبل أبنائهم وأحفادهم. ولا حاجة إلى تأكيد أن العلل كثيرة، إلا أن العلة الأخطر تتمثل في موجات التطرّف التي تضرب كل مقومات الأمة وتاريخها وتدمر قواعدها وقيمها. ورغم كل ما قيل ويقال عن هذه الآفة المستشرية، فإن الإصبع يجب أن يوجه في الدرجة الأولى إلى ما شهدناه قبل ولادة هذا الجنين الوحشي من شحن كريه في الخطاب السياسي والديني والطائفي والمذهبي الذي أدى إلى تداعي بناء ظل صامداً لمئات السنين. وتزامن هذا الخطاب مع تقصير فادح في مجال عمل المؤسسات الرسمية والدينية، لاسيما في المساجد والجامعات والمدارس الدينية وغير الدينية وأجهزة الإعلام الرسمية والخاصة وغياب التوجيه الصحيح والتحذير من أخطار التطرّف والإرهاب، بل إن عشرات القنوات الفضائية والصحف نبتت فجأة في الأجواء العربية، من مختلف الطوائف والمذاهب، لتبث السموم وتحض على الكراهية والقتل والتعصب والعنصرية لغايات في نفوس يعاقيب هذا الزمان. ونظرة سريعة إلى مجريات الأمور وتسارع الحوادث تكشف بعض الأسباب الرئيسة لازدهار تجارة الفكر المتطرف والتكفيري وانتشار الإرهاب وتحوله إلى أعمال وحشية يُندى لها الجبين ولا علاقة لها بالإسلام وهو براء منها ومن أصحابها، بل يمكن القول إن ما تقوم به التنظيمات المتطرفة أساء إلى الإسلام مليون مرة أكثر مما أساء إليه الأعداء والمغرضون، رغم كل ما بذلوه من جهود وما رصدوه من إمكانات. فأين دين التسامح والمحبة والرحمة والغفران من قتل الأبرياء وارتكاب المجازر والإعدامات الوحشية من حرق ونسف وإغراق ورمي من الطوابق العليا؟ وأين الإيمان والإنسانية من ذبح الجنود ورجال الأمن الذين يدافعون عن أمن الشعب؟ وأين الإسلام الداعي إلى الرحمة بين البشر والسلام وعدم الاعتداء لأن «الله لا يحب المعتدين» من قتل الناس بلا رادع ومن كل المذاهب؟ رغم أن الإحصاءات تؤكد أن غالبية الضحايا هم من أهل السُنّة الذين يدعي الإرهابيون أنهم يمثلونهم. وأين الإسلام من جرائم تفجير المساجد خلال صلاة الجمعة وقتل المصلين، كما جرى في السعودية والكويت وسورية والعراق؟ كل هذه الجرائم لا يمكن تبريرها مهما كانت مبررات من يرتكبها ومزاعمه، لأنها تؤدي إلى تدمير الجسد العربي وتحقق للأعداء مآربهم وأحلامهم في تقسيمهم وتفتيتهم، إضافة إلى تشويه صورة المسلمين وإعطاء الذرائع للمتعصبين لممارسة أحقادهم والتضييق على أبناء الجاليات العربية والإسلامية وتصويرهم كخلايا نائمة ووحوش متأهبة للانقضاض على دول أعطتهم الأمان وقدمت لهم الخدمات والمساعدات والتعليم والرعاية الصحية ومعها جنسياتها، وهو ما لم تقدمه لهم دولهم الأصلية. كل ذلك جرى بسرعة متناهية لا ندري فيها من أوجد هذا الفكر المدمر ولا من تآمر وحرّض وسلّح وموّل لتحقيق أهداف خبيثة لأجانب، أولهم إسرائيل التي تتفرج وتفرح وتشمت بالعرب المغلوبين على أمرهم وتخطط لإكمال هدفها الإجرامي، وهو ضم معظم الأراضي العربية وإعلان نفسها دولة لليهود في مقابل دويلات وكيانات دينية وطائفية ومذهبية وعرقية هزيلة ومتحاربة في ما بينها، علماً أن التنظيمات المتطرفة لم تتعرض لا بالقول ولا بالفعل إلى إسرائيل ومصالحها في مقابل تهديد الدول العربية وتوجيه التهديدات إلى حركة «حماس» في غزة! ومع هذا فإن من المنطقي تحديد الأسباب الأخرى للانتشار السريع والواسع والمنظم للفكر التكفيري وتمدد الاٍرهاب ولجوئه إلى أساليب أكثر عنفاً وتشدداً وتنظيماً وتسليحاً، وأولها الشحن الأسود في الخطاب السياسي والديني وتمكنه من استغلال المساجد وقاعات الدرس، ثم في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في شكل لافت وبحرفية متطورة وخبرات متمكنة لإغراء المراهقين والمراهقات والشباب وغسل أدمغتهم وتحريضهم وتقديم وعود لهم بمغريات مثل «جهاد النكاح» وشراء السبايا في الدنيا وعناق الحور العين في الآخرة، كأن الجنة مضمونة لمن يرتكب مثل هذه الخطايا. ولا يمكن تجاهل عوامل أخرى مثل البطالة والفقر والجهل بأصول الدين والغلو والتطرف والقضاء على دور المعلم في التوجيه الصحيح وتحول بعض المعلمين إلى محرضين، إضافة إلى تضاؤل دور الأسرة في بناء الأجيال الصالحة وغياب الوالدين، إما بداعي تأمين لقمة العيش أو الالتهاء بالأمور التافهة وترك تربية الأطفال للخادمات الأجنبيات. وأكرر هنا التحذير من تقصير الإعلام في تأدية واجباته لمواجهة هذه الموجة السامة وسماحه للمغرضين باستخدام التلفزيونات للترويج، وغض الطرف عن قنوات مغرضة تأسست لنشر الفتن وإثارة الأحقاد. وهذا ينطبق للأسف، ونقولها بصراحة، على الجميع: سُنّة وشيعة وقنوات فضائية مسيحية. في مقابل هذه القنوات وتوجهات الخطاب العربي، نجد أن الخطاب في الجانب الآخر، وهو إيران تحديداً وبعض السائرين في ركابها، يعمل في أحيان كثيرة على صب الزيت على النار، من شعارات تصدير الثورة ثم العمل على فرض أدبياتها، إلى السماح بالإساءة إلى رموز دينية لها قدسيتها عند المسلمين السُنّة، وأيضاً إلى تباهي بعضهم علناً بتحقيق أحلام إمبراطورية فارسية «عاصمتها بغداد وتضم صنعاء ودمشق وبيروت»، وصولاً إلى التحريض على التمرد ومعاداة الأنظمة الشرعية، كما جرى أخيراً بالنسبة إلى الحوثيين في اليمن وما جلبوه على وطنهم من خراب ودمار وتسببهم بنشوب الحرب القائمة التي اعتبرت بمثابة «شر لابد منه» لأن البديل كان سقوط اليمن في يد إيران. هذا الخطاب التحريضي الإيراني أعطى الطرف الآخر الإرهابي التكفيري الذرائع للترويج لدعوته واستخدام المفردات المعروفة التي لا داعي إلى ترديدها هنا. وهذا يثبت مجدداً وجود معضلة أساسية وجوهرية، وهي أسر الأمة في سجون التاريخ والجغرافيا. وبالتالي فإن من المؤكد أن الحل الأمني لمواجهة هذه الآفة لا يكفي وحده في وضع حد لها ولا أن يخفف من غلوائها وتمددها، بل لابد من وضع الحلول الناجعة لتصحيح الخطاب السياسي والديني ورسم خطة متطورة وموحدة للمواجهة وأساليب المعالجة ومخاطبة الشباب وتنبيههم إلى أخطار ما يدبر لهم ولأمتهم وأوطانهم ودينهم الوسطي، لأنهم الفئة الأولى المستهدفة من جانب المتطرفين، ولابد من كشف أسرار هذه الآفة المدمرة ومن يقف وراءها ومن خطط ومن نفذ ومن حرض على تدمير حاضر الأجيال ومستقبلها. وهذا لن يتحقق إلا بالحوار بين المسلمين أولاً، ثم مع المسيحيين العرب والأقليات لطمأنتهم والتأكيد على التعايش والتآلف الذي دام 14 قرناً، ومن ثم الدخول في حوار بنّاء وعملي مع الدول الأجنبية لنزع صواعق التفجير والعداء والبحث عن حلول جذرية توصل الجميع إلى شاطئ الأمان.