×
محافظة جازان

اطلاق دفعة جديدة من سجناء الحقوق الخاصة بجازان

صورة الخبر

بعد التركيز على موضوع نسبة الطيارين السنّة المتبقّين في قوات النظام السوري، يسأل مذيعُ «الجزيرة» العقيدَ «العلوي» الأسير عما إذا كان مستعداً لقصف بلدته وأهله. استطراداً، كان متوقعاً من المذيع السؤال عمّا يدفع أولئك الطيارين السنّة إلى قصف أبناء طائفتهم، لكنه هرب إلى إحراج الأسير بسؤاله: السوريون الذين تقصفهم أليسوا أهلك؟ فيبدو الأسير في امتحان مدرسي ساذج، يتطلّب منه الإجابة مُحرجاً بـ «نعم»، وكأنه في مدرسة للإعداد الحزبي البعثي قبل الثورة والانقسام الأهلي الذي رافقها. لندع جانباً تنويه الأسير بالمعاملة الحسنة التي يتلقاها من «جبهة النصرة»، فذلك لن يتبيّن صدقه من عدمه إلا إذا تحرر من أسر «النصرة»، وأيضاً من أسر امتنانه للنظام فيما لو تمت مبادلته كما يتمنى. مع ذلك، من باب المهنية الصحافية، كان ينبغي على المذيع أحمد منصور، عدم سؤال الأسير عن نوع المعاملة التي يتلقاها، إذا لم يتبرع من تلقاء نفسه ولأسباب يقدّرها، بمثل هذا التنويه. بدءاً من هنا، ظهر الأسير كأنه يتفوّق على مُستنطقه، فعلامات الإحراج البادية على وجهه وهو يجيب، توحي بخطأ السؤال على الأقل. طوال ما يقارب الخمسين دقيقة، كان واضحاً التركيز الشديد على الانقسام الطائفي من جانب معدّي البرنامج، إن لم يكن ذلك في الحوار المنطوق، ففي العبارات النصية المرافقة على الشاشة. ويجوز القول إن العقيد الأسير فاجأ مستنطقه بنسبة أعلى من السنّة المنخرطين في الحرب على «أهلهم» السنّة، وأصرّ على تلك النسبة في غير مناسبة، وهذا لا يمنع انزلاقه مع معدّ البرنامج إلى حسبة طائفية ثنائية فحسب: فعندما يقول إن هناك مئة طيار سنّي مقابل أربعمائة طيار علوي تختفي طوائف وإثنيات أخرى، كالدروز والأكراد والطوائف المسيحية والأرمن، التي تشكّل بمجملها حوالى الثلث العددي من السكان الذين لا حضور لهم في سلاح الجو. بخلاف العبارات التي تلقاها بنوع من التوبيخ الأخلاقي، ظهر العقيد علي عبود أكثر تماسكاً وانسجاماً من محاوره، بخاصة عندما ذهبت الأسئلة إلى الميدان التقني، وبانت معها قلة الاطلاع على واقع قوات النظام. على سبيل المثال، كان قِدَم العقيد في الخدمة حجة للمذيع على مكانة يُفترض أن يحتلّها الأسير في هرم الجيش، وهي في الواقع حجة لصالح كثر لا يملكون صلات أمنية وثيقة تدفعهم قُدماً في سلك الترفيع والمناصب. الأهم من هذا، أن القتل من وجهة نظر الأسير، هو عملية تقنية لا مسؤولية له عنها، وعندما استغرب المذيع ألا يسمع طيار بنتائج فعلته، أجاب ببساطة بأنهم يقصفون الإحداثيات الواصلة لهم من جواسيس على الأرض، ويحصلون على النتائج من الجواسيس أنفسهم. ثم، من خلال سؤال آخر، يتبيّن عدم متابعته الأخبار سوى من القنوات التلفزيونية المحلية التابعة للنظام والقنوات الحليفة له، وهو أمر معروف في القطعات العسكرية من جانب الثورة. يتبين أيضاً، أن الطيار الأسير يدرك بعقله إمكانية وقوع ضحايا مدنيين، لكن ذلك لا يعدو ما هو معلوم في العلوم العسكرية التي تضع هامشاً للخطأ «المشروع»، أي أنه شبه منقطع انفعالياً عن نتائج عمله، على عكس الانفعالات البادية على وجهه وصوته عندما يوجّه الحديث في آخر المقابلة الى أسرته. بالتأكيد، لم يتعمّد الطيار الظهور كما تم على الشاشة، فهو نجح مرات عدة في خلخلة السردية المبسطة التي أريد لها التحكم بمجريات المقابلة. أولاً، نجح على صعيد تصحيح النسبة العددية للطيارين السنّة، فقط لأن محاوره جاء على خلفية الاستهانة التامة بها، وعدم التفريق بين الحساب العددي والفاعلية الحقيقية، وبدا متفاجئاً أو غير مصدّق أن العقيد العلوي الذي أمامه ليس جزءاً مما يشبه مجلس حرب للطائفة. ثانياً، نجح الأسير في تبديد تلك الصورة التي يروّجها الشبيحة عن عموم معسكر الموالاة، الصورة التي تتوعد بحرق الأرض وما عليها. فهو أشار غير مرة، إلى أن رغبات محيطه تنحصر بالخلاص من الوضع الحالي، وأكد أن المصالحة ممكنة، مع أن تأكيده الأخير قد يدلل أكثر على صدقه في عدم معرفته بحجم الدمار الذي تسبّب به هو وزملاؤه. ثالثاً، وقد يكون هذا أخطر ما في الأمر، نجح الأسير من حيث لا يفطن، في تعزيز وتجريد العامل التقني كما يراه، لأنه ضمن معرفته بما ترويه قنواته التلفزيونية وما يصله من إحداثيات، يُفترض أنها لمسلّحين أجانب معادين، لا يفعل سوى ما يمليه «واجبه»، ولا يطلع سوى على النتائج المتعلّقة بأدائه هذا الواجب. إذا تجاوزنا شرط الحرية الذي ينبغي أن يتاح للطيار كي تتحلى أقواله بصدقية أكبر، ينبغي أن تتاح للطيار المعني معرفة أوسع بما يفعله، الأمر الذي لا تكفي الإشارة إليه في حوار تلفزيوني، أو لا يكفي الاطلاع عليه عبر الجهة الآسرة: «العدو». إننا في موقع إما أن نضطر فيه إلى تكذيب أقوال الأسير جملة وتفصيلاً، أو تصديقها وقبول بنيته الانفعالية المتلائمة مع عمله، ومع الأسف تشير الدراسات إلى أن الطيارين ومُطلقي الصواريخ هم الأدنى إحساساً بما يفعلونه، على رغم تسبّبهم بالحجم الأضخم من الدمار والإبادة. ومن دون أن يتقصّد المذيع أو الأسير، كنا أمام مثال حي على تلك الدراسات، بدل أن نكون إزاء «الوحش» الذي في المخيّلة، والذي يروّع على الأرض سكانها المدنيين. ما يلعب لصالح الطيار، أنه في النهاية يتوجّه إلى النظام كي يبادل به على «المجاهدين والمجاهدات» المعتقلين، وهذا بلا شك عرض من الجهة الآسرة عبر تلك المقابلة، أي أنـنـا نـخلص في النهاية إلى منطق الحـرب، وإلى كونـه مجرد أسير حرب. كل الكلام السابـق في المقـابـلة عن استهدافه مدنيين سيتوارى أمام هذا المنطق، فلا محاكمة عـادلة ينـبـغي أن يمثل أمامها، ولا جهة مخوّلة بها قانونياً أصلاً. المحاكمة الوحيدة المتاحة، هي تلك التي تبقى في أذهاننا: إذا سمحت الظروف، هل تنبغي محاكمة هذا الطيار بوصفه مجرم حرب؟ أم تصديق أقواله واعتباره أداة «تقنية» لمجرمي الحرب الكبار ليس إلا؟