تهرب «حماس» هذه الأيام إلى هدنة طويلة مع إسرائيل بعدما أكّدت أنّها قادرة على الاحتفاظ بـ«الإمارة الإسلامية»، على الطريقة الطالبانية في قطاع غزّة. صار عمر هذه الإمارة ثماني سنوات بالتمام والكمال. ففي مثل هذه الأيّام من العام 2007، نفّذت الحركة «انقلابها في غزّة. اتخذ الانقلاب شكلاً دموياً لم يعتد عليه الفلسطينيون في تنظيم العلاقات في ما بينهم. لكنّ (حماس) أرادت أن تقول بكل بوضوح إن غزّة صارت ملكاً لها وأنّ القطاع نواة لـ(الإمارة الإسلامية) التي تريد إقامتها والتي تؤثّر في كلّ المحيط...بما في ذلك مصر. كانت تجربة غزّة الفاشلة القدوة الوحيدة أمام «إخوان» مصر الذين أرادوا نقل تجربة القطاع إلى أرض الكنانة. رفض المصريون ذلك. رفضوا عملياً أن تكون غزّة هي التي تؤثر في مصر، بدل أن يكون عكس ذلك هو الصحيح. نجحت (حماس) فلسطينياً، لكنّها سقطت مصرياً بعدما صارت غزّة مصدراً للإرهاب الذي يُصدّر إلى الداخل المصري. بعد ثماني سنوات على الانقلاب الذي نفّذته (حماس)، بدأت تتضح أبعاد هذا العمل الذي قام به الإخوان المسلمون بالتفاهم مع إسرائيل حتماً. هناك حاليا مفاوضات تدور بين (حماس) وإسرائيل من أجل هدنة طويلة بين الجانبين تسمح للحركة الإسلامية ببناء دولتها في غزّة. كلّ الحروب التي خاضتها (حماس) مع إسرائيل، بدعم إيراني أحياناً، وتركي في أحيان أخرى، كانت تستهدف الوصول إلى اللحظة التي وصلنا إليها اليوم. هذه اللحظة هي لحظة استقلال غزّة بما يخدم المشروع الإسرائيلي الهادف إلى القضاء على خيارالدولتين الذي في أساسه قيام دولة فلسطينية مستقلة، عاصمتها القدس الشرقية، دولة تعيش بسلام ووئام إلى جانب إسرائيل. دفع الفلسطينيون ثمن كلّ الحروب العبثية التي خاضتها (حماس) مع إسرئيل ابتداء من نهاية العام 2008. لم يكن لدى إسرائيل يوماً اعتراض على هذه الحروب، آخرها حرب العام الماضي التي استخدمت فيها إسرائيل كلّ ما تملكه من أسلحة فأزالت أحياء كاملة من الوجود. يقول الرئيس الفلسطيني أبو مازن في مقابلة مع مجلّة مصرية أن ثلاثاً وتسعين عائلة فلسطينية من غزّة أزيلت من الوجود تماماً. قضت إسرائيل على الأجداد والأبناء والأحفاد دفعة واحدة، فلم يعد من خيار غير شطب هذه العائلات من السجلات الرسمية. كلّ ما يمكن قوله الآن، إن (حماس) وصلت إلى ما تريد الوصول إليه. هناك التقاء في المصالح بينها وبين إسرائيل. (حماس) تريد إمارتها في غزّة وإسرائيل لا تعترض على ذلك. على العكس من ذلك، إنّها تشجع مثل هذا التوجّه الذي يقضي على المشروع الوطني الفلسطيني، المدعوم دولياً، من أساسه. فشلت (حماس) في مصر، لكنّها نجحت فلسطينياً. نجاحها منقطع النظير، خصوصاً أن ليس لدى السلطة الوطنية في رام الله ما تردّ به على الحلف الجديد الذي قام في وجهها. لم يعد أمام أبو مازن سوى الشكوى من الجمود في عملية السلام، على الرغم من الجهود الفرنسية التي بلغت قبل أيّام ذروتها بجولة في المنطقة قام بها وزير الخارجية لوران فابيوس شملت إسرائيل والأراضي الفلسطينية. تخلق (حماس) واقعاً جديداً. يتمثّل هذا الواقع في أنّ الفصل بين الضفة الغربية وغزّة صار فصلاً نهائياً...إلّا إذا جاء يوم انهارت فيه السلطة الوطنية في الضفّة الغربية. عندئذ، ستبادر (حماس) عندئذ إلى ضم الضفّة إلى إمارتها الإسلامية وستجد إسرائيل أكثر من محبّذة لذلك. في النهاية، تريد إسرائيل أن تجعل من الضفّة الغربية أرضاً طاردة لأهلها من الفلسطينيين. واجهت مقاومة حقيقية لهذا التوجّه عندما كان الدكتور سلام فيّاض رئيساً للوزراء. استطاع سلام فيّاض بناء مؤسسات فلسطينية شفافة وفعّالة تصلح نواة لدولة مستقلة قابلة للحياة. أكثر من ذلك، كانت تلك تجربة جعلت الفلسطينيين يسعون إلى العودة إلى الضفّة والاستثمار فيها بدل الهرب منها. لسبب أو لآخر، لا مجال لفهمه أو إيجاد تفسير له، فضّل الرئيس الفلسطيني استبعاد سلام فيّاض. أين المنطق في ذلك؟ أين المنطق في التخلي عن أفضل شيء حدث لفلسطين والفلسطينيين منذ توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993؟ أين المنطق في الحملة المستمرّة هذه الأيّام على سلام فيّاض والتي لا مبرّر لها سوى قطع الطريق على تولي جيل جديد من الفلسطينيين من أهل الضفّة والقطاع شؤون إدارة ما يمكن وصفه بأنّه شبه دولة يمكن تطويره إلى دولة حقيقية يوماً ما؟ لا ينفع الآن استبعاد (حماس) من حكومة الوحدة الوطنية في شيء. لن تنفع الدعوة إلى مؤتمر عام لـ(فتح) حدّد موعده في نوفمبر المقبل في شيء. الجديد فلسطينياً ليس الإصرار الإسرائيلي على دفن خيار الدولتين فحسب، بل الجديد أيضاً، ذلك الحلف الجديدـ القديم بين (حماس) وحكومة بنيامين نتانياهو. يرأس نتانياهو حالياً أكثر الحكومات تطرّفاً في تاريخ إسرائيل. من الطبيعي أن تجد هذه الحكومة حليفا موضوعيا في (حماس) التي تطلق كلّ الشعارات التي تستجيب لما تريده حكومة متطرفة. أين المشكلة لدى الحكومة الإسرائيلية الحالية عندما تنادي (حماس) بزوال إسرائيل. هل من شعار أفضل من هذا الشعار كي يهرب نتانياهو من أي مفاوضات جدّية تستند إلى ما بقي من شرعية دولية وبما يؤدي إلى إنهاء الاحتلال الذي طال أكثر من اللزوم؟ في نهاية المطاف، ليس أمام إسرائيل سوى استغلال المتغيّرات التي يشهدها الشرق الأوسط. ما تفعله (حماس) يوفّر لها أفضل فرصة للاستفادة من هذه المتغيّرات. هناك ميليشيا مسلّحة تحكم غزّة تسعى في الوقت ذاته إلى نشر الفوضى والإرهاب في سيناء دعما لإخوان مصر. أكثر من ذلك، تطلق هذه الميليشيا كلّ الشعارات التي يستخدمها نتانياهو للقول إن لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه. مثل هذه الميليشيا، التي تطمح إلى بقاء غزّة تحت الحصار الإسرائيلي بغية التحكّم برقاب أهلها، لا يمكن إلّا أن تكون في خدمة إسرائيل. ليس أمام إسرائيل سوى ردّ التحيّة لـ(حماس) بما هو أحسن منها، أي بهدنة طويلة لخمس عشرة سنة أو أكثر، هدنة قد لا تكون معلنة، يزداد خلالها وضع الغزاويين بؤسا ويُدفن خيار الدولتين نهائياً. الآن بدأنا نفهم لماذا سيطرت (حماس) على غزّة بتلك السهولة في يونيو من العام 2007. ثمّة أمور لا تفسير لها، مباشرة بعد حصولها. لا بدّ من الانتظار بضع سنوات. الصورة بدأت تتضّح الآن. باتت واضحة أكثر من اللزوم. حقّقت (حماس) لإسرائيل كلّ ما تصبو إليه، في وقت تبدو السلطة الوطنية عاجزة عن القيام بأيّ خطوة في أي اتجاه كان. مبروك لـ(حماس) الهدنة. مبروك لها نجاحها الفلسطيني وسقوطها المصري. ومبروك لإسرائيل دفن خيار الدولتين، فيما العالم يتفرّج على استمرار الاحتلال، على الرغم من الحركة الشجاعة، ولكن اليائسة التي تقوم بها فرنسا.