×
محافظة المنطقة الشرقية

توقيع اتفاقية تشييد مدرسة الصفوة الدولية في ديار المحرق

صورة الخبر

قبل الحديث عن الصدمة في العالم القصصي لمجموعة «تشتعل ولا تضيء» للناقد والقاص العراقي علي كاظم داود، سأتحدث عن بعض المفاهيم المهمة في نظرية الصدمة، ليس من باب الاستعراض الثقافي ولكن كي أضع ما أتحدث عنه في سياقه المعرفي الحقيقي، وكي أتيح للقارئ فرصة الاطلاع على مبادئ النظرية الأساسية ومن ثم هو بدوره يستفيض في البحث عنها بشكل أوسع: نظرية الصدمة نظرية مهمة في الدراسات الغربية المعاصرة جدا جدا والتي تتماس بشكل كبير مع واقع العنف الحالي العربي كما بينا أعلى فكل الحروب تحمل صدماتها وويلاتها ومآسيها. الصدمة ككلمة اغريقية كانت تعني الجرح في الجسد ولكنها صارت تعني في الادب وعلم النفس وفي نصوص فرويد جرحا في العقل كما يقول فرويد. (Cathy Caruth, 1996) النظرية تقوم على مجموعة من الأبحاث السيكولوجية تختص ببحث الآثار الناتجة عن أسباب متعددة للصدمات مثل الاعتداءات والحروب والمجاعة والسجن على الأشخاص المتعرضين لها، وقد قوربت من ناحية فلسفية، ونفسية وأدبية، وتاريخية واجتماعية وتتعالق بشكل مفصلي مع مفهوم الذاكرة. وهي جهود بحثية تم الاعتراف بها رسميا في عام 1980 تحت عنوان «خلل الضغط الناتج عن ما بعد الصدمة». مفاهيمها تطورت منذ العمل بها عام 1990 م. وطورت باعتبارها حقلا متداخلا للدراسة يتضمن الأدب ،علم النفس، التاريخ، والفلسفة مع تركيز على أسئلة الذاكرة، والنسيان، والسرد. من الواضح أن أسئلتها الثلاثة المهمة هي الذاكرة والنسيان وسرد تفاصيل الصدمة وهي معالم ألاحظها بشكل كبير في سرديات العالم العربي الأدبية على وجه الخصوص. لو التفتنا إلى تاريخ النظرية سنجد ان فرويد في أبحاثه المبكرة تحدث عن الصدمة في أعماله الخاصة بدراسات الهيستيريا التي هي واحدة من نتائج الصدمة. فبعد الصدمة يحصل نوع من الانفصال عن الواقع عقليا. من بعد فرويد نجد لاكان قد طور بعض المفاهيم، وأدورنو ودريدا، ودومنيك لاكبرا، وكاثي كاروث التي لديها العديد من الدراسات المهمة في الحقل مثل: (الخبرة غيرالمدعاة: الصدمة والسرد والتاريخ Unclaimed Experience: Trauma, Narrative, and History)، (Trauma: Exploration in Memory الصدمة: اكتشاف في الذاكرة) (Listening to Trauma: Conversations with Leaders in the Theory & Treament of Catastrophic Experience الاستماع إلى الصدمة: حوارات مع مؤسسي النظرية وعلاج التجربة الكارثية). في ما يخص أنواع الصدمة، هناك نوعان للصدمة خبرة منفصلة للصدمة والنوع الثاني من الصدمة معاد بشكل مترابط زمنيا مثل الصدمة الفلسطينية. للصدمة أعراض متعددة وهي التي يعمل سرد الصدمة من خلالها، من مثل: الفلاش باك والهلوسة والنسيان والذهول العاطفي والسلوك القهري كما أن الصدمة تفترض انهيار الدلالة. في عالم ما بعد الصدمة يحدث انطلاق الشيء من لاشيء. ويفترض أن تكون هناك رؤية تنبؤية للمستقبل ومابعدها. إذا كان سرد الصدمة يشكل نوعا من الاستجابة لها، فإن من ردود الفعل الواردة على الصدمة أيضا بدلا من الاستجابة لها والوقوع تحت وطأتها، هو إنكار هذه الاعراض وبناء عالم رمزي آخر جنة جديدة مثلما فعل درويش في قصائده محاولا استعادة الفردوس المفقود. تشتعل ولا تضيء يبدو أن ساردو المجموعة القصصية «تشتعل ولا تضيء» يربطهم خيط مشترك يرتكز على سرد الصدمة العراقية بعد فترة الحرب العراقية، يسجلون صورا من الموت غير الاعتيادي، الناتج عن ظروف الحرب، يتحدث عن يوميات عادية لشخصيات تسير في وتيرة يومياتها العادية تفاجئها أحداث غير متوقعة، تحدث لها هزات عاطفية تؤثر على مسار حياتها. حكايات لأشخاص فاجأهم انقطاع غير اعتيادي بحياتهم أدخلهم دائرة الموت، أو النجاة من الموت مما يعني إنهم نجوا من الموت بذاكرة مثقلة بأحداث عنيفة شاهدها فأصبح حامل شهادة. من هنا إني لا أجد في المجموعة قصة تخلو من إشارة لصدمة ما ولو بشكل عرضي ففي قصة «الطبعة الأخيرة» يقول السارد: «في اليوم التالي كان مكانه خاليا، الشارع بدا فقيرا بالمارة، زجاج الواجهة المكسر ما زال على الأرض، الصحف وحدها أتت وهي تحمل خبر تفجير حصد أرواح ثلاثين شخصا من أبناء مدينة العمارة». يشير السارد، هنا، لأحداث عنف وانفجارات وموت، ومكان يكاد يخلو من الحركة ويطبق بالصمت والسكون والموت فلا مارة، وصور الدمار هي شاهد من الشهود غير الناطقين ماعدا الصحف والسارد الذي يلتقط هذه الصورة من صور الموت التي يتقاطع معها البطل، ينقلها بشفافية من دون تعليق. أما في قصة: «عندما يتبلل الضوء»: يتحدث السارد، عبر ضمير المتكلم، عن ما بعد فترة الحرب يروي الأثر النفسي الذي تتركه الحرب إذ ولد مع بداية الحرب: «في الحرب كنا ننقل خطانا بحذر متلفتين، حاملين حقائبنا المدرسية، نمشي مثل كتل صغيرة بجوار الأسيجة، متشابكي الأكف. لم تعد من نافورات تبلل الضوء، ولا آباء يوصلونا بأمان». الحذر هو سيمياء الخوف من خطر متربص يعرقل مسيرة الحياة، كما أن الأجساد متشابكة محاولة الحفاظ على الحياة، التي فقدت مظاهرها فلا نوافير، والماء هنا رمز الحياة المتوقفة، والآباء قد فقدوا إما موتا أو إصابة، لذا تولد الحرب جيلا محروما من آبائهم، وأرامل يتحملن مسؤولية مضاعفة، كما اتضح في قصة لاحقة بالمجموعة بعنوان: «لن يمحو الزمن»، فالسارد الناجي يقول: «حملت معي فقط حكايات مدينتي الصغيرة النائية، وريما لكي أرويها للغرباء الذين لم يسمعوا بمثلها أبدا». عندما يسرد السارد حكاية مدينته أيام الحرب، هو يوثق ويحفظ تاريخها من الزوال، فالحرب قادرة على إزالة أمم من الخريطة والذاكرة الجمعية، مالم يكن لديها سارد يؤصل ويسجل حكاية أمة انقطع ترابط تاريخها، واستمراريته بسبب الحرب. لذا تكون الكتابة السردية صورة لتحرير ذاكرة آيلة للزوال والسقوط في بئر النسيان. ثالث القصص المهمة في سرد الصدمة، هي قصة «لن يمحو الزمن» ومن العنوان يتضح أن الصدمة آثارها باقية دوما، مادامت ثقيلة الوطأة على المصدوم، الذي سيحملها معه دوما، بشكل معاد في أغلب تفاصيل الحياة، ذاكرة المرأة معلقة بحادثة قتل الزوج، ومعرفة القاتلين الذين لا تستطيع إلا الدعاء عليهم، يتبادل فيها الواقع، اليقظة مع النوم والحلم، بأن أصبح الواقع أكثر مأسوية من الكابوس، والنوم وسيلة للهروب من الواقع المرير، لذا الخط الوحيد الذي يربطها مع الحياة هو الأبناء. رمزية العنوان رمزية العنوان «تشتعل ولا تضيء»، تتبين في أن المتون القصصية تعبر عن أحداث عنيفة، من حرائق وجروح نفسية وجسدية، موتى بأرواحهم وأجسادهم، فكل هذا يمثل فعل الاشتعال والاحتراق للأبطال في ظروف الحرب ومابعد الحرب، ليأتي السارد ويعطي رأيه في هذا الاشتعال، إذ إن النيران المضرمة في كل قصة من القصص تشتعل ولكنها لا تضيء، كما يقول سارد «على هامش كتاب الرمل». وصل الجيش إلى القلعة، وكانت الشمس تسحب أذيالها خلف الأفق، فدخلوها من أبوابها التي بدت لا نهائية. وما إن استقروا حتى أشعلوا النيران. أشعلوها ليطردوا الظلام الذي استبد بين أسوار القلعة على عجل. لكن ما أثار استغرابهم أن النيران لم تكن تضيء كعادتها! تشتعل ولا تضيء!.. فاستمر الظلام بمحاصرة الجند من كل مكان». ولكن لم تشتعل ولا تضيء؟ هذا، برأيي، لأن الاشتعال ليس اشتعالا يهدف إلى الإضاءة مثلما هي نار موسى أو بروميثيوس بل ناتجة عن فعل عبثي تدميري، يشتعل ولا يذر أخضرا ولا يابسا، ينهي مظاهر الحياة المعنوية والجسدية ويقتل الوجود الإنساني، لذلك لا ضوء بل ظلام تلو الظلام.. فيأتي العنوان ليرصد مفارقة في وجود النار، فالنار التي كانت مصدرا للضوء هي هنا مصدر للموت والفناء وبالتالي الظلام عكس الضياء..ولا يخفى على القارئ دلالة استخدام الفعل المضارع في تشتعل وتضيء في الدلالة على استمرارية وديمومة الحدث. * كاتبة وناقدة كويتية