قال المذيع الجهبذ ذو الرأي الأوحد: «يتم الإخلاء كلية، ومن ثم يجري الدك جماعة، ونعيد البناء على مياه بيضاء». أما المحلل الأشرس صاحب السجل الأوسع في التكتيك النظري والتخطيط الافتراضي فقد أفتى بأن «اقتلاع رأس الأفعى في السجون سيؤتي ثماره على بقية جسدها المتناثر هنا وهناك». لكن الشيخ الأحكم ممتلك اللسان الأحلى والدعاء الأقوى مال إلى الدعاء على «الظلمة الكفرة الخونة» والتضرع إلى الله أن يريه عجائب قدرته فيهم. أما المسؤول السابق «عبده مشتاق» حالياً فقد تحدث عن «الجرذان» وتطرق إلى «الفئران» ولم يتوقف كثيراً عند الأسباب والعوامل، بل انخرط كثيراً في وصف المنظر ونعت المشهد. وفي تلك الأثناء التي نشطت فيها سيول التحليل وفيضان التوصيف، انشغلت القيادة بالتصويب تجاه الأهداف وانغمس الناس في بحور المراقبة من بعد وأغوار المتابعة المشوبة بالتوجس. توجس بعضهم خوفاً على ذكاء المصريين لا محل له من الإعراب. فالمذيع الجهوري المطلقة يداه والمحلولة قواه ليصب جام تحليلاته العنترية وغضباته التنويرية لم يعد مصدراً للقلق أو سبباً للرهب خوفاً من أن يؤثر سلباً على الملايين أو يدق المزيد من الأسافين. وخير دليل على ذلك تعليق بواب العمارة على مطالبته التلفزيونية بدك المباني على الرؤوس وهدم المعبد على من فيه دحراً للإرهاب ومواجهة لأعوانه بقوله: «ماتخافش من الهبلة (لا تخف من البلهاء)، خاف من خلفتها». «الخلفة» المتوقعة تبلورت من خلال ضيف استراتيجي ومحلل أمني وصحافي عسكري انهمكوا في الخروج بنظريات لولبية وأفكار خزعبلية لمواجهة الإرهاب الذي وضعته المجموعة التلفزيونية في جعبة واحدة. في الجعبة يقبع قواعد «الإخوان» ومنفذو التفجيرات في المدن ومفتعلو الأزمات في الطرق ومعهم ناشطو الإنترنت من لجان «إخوانية» إلكترونية ومستخدمين فرديين متعاطفين وجماعات دينية مبقية على مشاركة رمزية ومفاعلة شرفية في أنشطة الجماعة من مسيرات هزيلة ودعوات هزلية. ويأتي على رأس الجوقة الإرهابية المختارة الإرهابيون أو الجهاديون أو التكفيريون في شمال سيناء. ومن شمال سيناء إلى «قهوة حراء» المقهى الشعبي الذي يشهد مساء كل ليلة جلسات شعبية متحولة من المجادلة في محتوى رمضان التلفزيوني إلى المناقشة حول فحوى الإرهاب «الحلزوني» كما وصفه أحدهم. وتصب المناقشات وتفضي المجادلات إلى أن رأي الشارع يربط بين ما جرى ويجري في شمال سيناء من عمليات إرهابية كبرى وما يدور في بقية المدن المصرية بين آن وآخر من أعمال تخريبية وحركات استفزازية. وعلى رغم هذا الربط المنطقي والحزم الفلسفي المشحونين بكم هائل من الاستعداد الشعبي العارم لدعم القيادة السياسية وتعضيد التوجهات القانونية، بل والانضمام إلى الصفوف العسكرية إن لزم الأمر، إلا أن صوت العقل يظل سائداً ونبرة الحكمة تبقى رائجة، مقارنة بنخب يصفها بعضهم بأنها «فقدت صوابها». الصواب المفقود بدا سمة المرحلة التي دخلت فيها مصر نفقاً إرهابياً مظلماً. فالجدل والجدل المضاد الدائرة رحاهما من دون هوادة على مواقع عنكبوتية عدة حيث جبهتي «الإخوان» في جهة وعموم المصريين في جهة، يشير إلى صمت مؤيد أو ربما سكوتٍ راضٍ يتحولان تحت ضغط إلى شماتة معلنة وفرحة عارمة لما جرى في سيناء. وعلى رغم وضوح الرؤية، خصوصاً بمن يقف مع من في مواجهة من، وعلى رغم ميل كثيرين من المصريين إلى ترجيح كفة القصاص بلا هوادة وقطع جذور الإرهاب من دون ليونة واجتثاث مشاريع الإرهابيين الجدد بغير تؤدة، إلا أنه ما زالت هناك أصوات تتساءل عن إمكان إنقاذ من يمكن إنقاذهم من الانحياز إلى الإرهاب. لكن تتضاءل مثل هذه الأصوات أمام تصرفات وفعاليات «إخوانية» على شاكلة «الانقلاب هو الإرهاب هنكسركم» وهو عنوان الأسبوع «الثوري» الإخواني الحالي، أو التهليل والتكبير بينما الإرهاب يهاجم الجيش في سيناء، والسكون والكمون بينما الجيش يدك الإرهاب في سيناء، أو توصيفات قيادي «إخواني» (وفي أقوال أخرى اعترافات) بأن تفجير أبراج الكهرباء والمرافق العامة «درجة من درجات السلمية» وعقاب «للمواطن المصري العادي الذي رضي بأن يعيش تحت ظل السيسي». وفي ظل تحركات الرئيس عبدالفتاح السيسي الأخيرة لتطويق الإرهاب الذي لم يفصل بين شقيه السيناوي وذلك الدائر في مدن أخرى في مصر «بتعليمات من داخل القفص»، تدور دوائر أخرى في نطاقات قانونية حيث مشروع قانون مكافحة الإرهاب الذي يتوقع استقباله بجدل حاشد وتضارب زاعق. فبين مطالبين بتطبيق الأحكام العرفية وفرض حال الطوارئ واجتثاث من يشتبه في ضلوعه في عمل هنا أو جماعة هناك، وملتاعين مما قد يسببه القانون الجديد من تهديد الحريات وتقليص الحقوق «بحجة» مكافحة الإرهاب، تقف القاعدة العريضة من المواطنين محتفظة بترفعها الأيديولوجي محافظة على رجاحة عقلها. فهي لا تتبحر في نصوص القوانين ولا تغوص في مواثيق الحريات، فلا هي تصب جام الغضب على من يطالب بتصفية الإرهابي قبل أن يصبح إرهابياً ولا هي توجه سهام الفرح إلى من يطالب بالحفاظ على حياة الإرهابي قبل حياة المرهوب به. لكنها تنتظر الخواتيم، حيث العبرة كامنة.