وتمر السنون وتزداد المسافة بيننا وبين ذلك اليوم الذي تسمّرت فيه العيون أمام شاشات التلفاز مذيعة خبر رحيلك يا زايد، ذلك اليوم الذي هوّت فيه قلوبنا، وتوقفت فيه عقارب الساعة عن الدوران. ومع اقتراب ذكرى الرحيل لم أجد نفسي إلا في جامع الشيخ زايد الكبير كعادتي دوماً كلما اشتقت إليك، وبقرب شباك قبرك يا أبتاه وقفت، وفي غمرة القرب، نطقت: يِيت أبَشِرْك يا بويه.. الحمد لله ترانا بخير.. ودارك بخير دامك خلفت لنا خليفة واخوانه، أبشرك يا بويه.. عيالك كلهم على قلب واحد وكلهم على العهد وافين، يا بويه.. لا تخاف عيال زايد ما يهزهم ريح - بإذن الله - وتعبك ما بيضيع دامك خلّفت أسود، نام يا بويه وارتاح الطير والشجر قبل البشر تراهم عنك راضين، وهذي شهادة ربي وبشراه لعباده الصالحين. ورغم البعد مازلت قريباً وبيننا ومعنا، وها هي ابتسامتك كعهدك تلتف حولنا وما زال صوتك يدندن في آذاننا، وها أنت يا زايد في كل زاوية وفي كل عين وفي كل قلب. أو تعلم أني كلما اشتقتك لم يأخذني داعي الشوق سوى لأن ألتفت.. فأراك حاضراً في كل إنجازٍ وتفوقٍ ومحفلٍ ونجاحٍ. أراك حاضراً في أبنائك يا زايد.. أراك حاضراً في مواقفهم ومبادئهم وحكمتهم وأخلاقهم. أراك حاضراً في كل مسجد ومدرسة ومستشفى وبستان ودار للعجزة والأيتام. أراك حاضراً في اليمن ومصر والسودان وسوريا وفلسطين والأردن والعراق وأفغانستان والصومال والبوسنة وفي كل بقعة من الأرض لك فيها شاهدٌ وبيان. وتتجلى أمامي كلما اُستحضرت كلمة خير رحلت يا زايد.. ولم يرحل خيرك. رحلت يا زايد.. وظل الخير يأبى إلاّ أن يقترن باسمك. رحلت واتّخذَ خلفُك نهجك الإنساني مساراً ومسلكاً.. وأنت من قلت: إننا نؤمن بأن خير الثروة التي حبانا الله بها - عز وجل يجب أن يعم أصدقاءنا وأشقاءنا، حتى غدت دولة الإمارات العربية المتحدة بفضل الله تعالى عنواناً للخير والعطاء وحققت المركز الأول عالمياً في حجم المساعدات الإنسانية الخارجية. رحلت وتركت خلفك شعباً يتسابق ويتنافس ليبقى كما عهدته عند حسن الظن به. رحلت وتركت خلفك شعباً باراً بأبيهم، شعباً لم ينس ذلك اليوم الذي بكيت فيه وأنت تعاهدهم على الإخلاص والجد من أجل الحفاظ على دولة الإمارات العربية المتحدة وعلى سعادة شعبها، وها هم أبناؤك يا أبي يتسابقون اليوم من أجل رد الجميل ليستمر عطاؤك إلى كل مكان وزمان، ويهدونك (يوماً) هو أقل ما يهدونك إياه. رحلت يا زايد.. وها أنا في ذكرى رحيلك الحادية عشرة أمسك بقلمي وورقتي لأخط ما يفيض عن زوايا نفسي وما يختلج فيها من أفكار وأحاسيس، فيقف القلم عصياً أمام من تجمعني وإياه قصة عشق وفخر، فكيف للقلم أن يُلملم تلك المشاعر التي تعصف بي شوقاً وحزناً! وكيف له أن يهدئ من فوضى ذاتي التي تجتهد أن تصوغ في وصفك بدايات أو خواتيم في جمل وعبارات! وبيد أن الكلام لهو مرايا النفوس فوجدت أن لا حاجة بي اليوم أن أكتب سرداً بل أكتفي بدعوة كل عينٍ تطال هذه السطور أن تشاركني خلوةً وصمتاً نستحضر فيه مآثر والدنا العالقة في أفئدتنا وذواتنا. وليكن التاسع عشر من رمضان يوماً وطنياً نحاكي فيه زايد خطواً وفعلاً وأنفاساً، نقبض فيه قلوبنا ونتحسس نبضنا، ونهديه المزيد من المبادرات الخيرية صدقة جارية عن روحه الغالية الحاضرة فينا، وإنّه ليشرفني أن أركن قلمي وأن أستدعي الإنصات لكل إثرٍ من لدن زايد.. (فلا حاجة اليوم أبداً للكلام!)