تختار الشاعرة التونسية هدى الدّغاري في مجموعتها «ما يجعل الحب ساقاً على ساق» (دار نقوش عربية – تونس – 2015) التأمُل فتأتي قصائدها أهدأ، أو لنقل أقلّ صخباً عن قصائد مجموعتها السابقة «لكل شهوة قطاف». تجربة شعرية تعيش المناخ ذاته، ولكن بميل واضح أن يكون البوح الأنثوي هذه المرَّة «مشغولاً» وذا اعتناء أكبر بالتعبير عن حالات إنسانية تجعل الحب في صورته الحسية أقرب إلى الوجد. تكتب هدى الدّغاري من حدقتين تشتعل فيهما انتباهات حسيّة عالية، لكنها حسيّة هادئة تنتقي الصور والرؤى والمشاهدات باعتناء أكبر، بل باهتمام أعلى بفن الشعر: «أرى غصناً يتسلق غصناً، يسلم وجه الشمس تفاحاً ينضج على وهجها». ننتبه هنا إلى أن هذه الرّغبة في التأمُل تترافق مع رغبة في كتابة مقطوعات قصيرة وبالغة التكثيف – وإن في القصيدة الواحدة – حيث الكتابة الشعرية تقشر من جسدها كل ما تراه الشاعرة زوائد لتظلَّ مكتملة بكلماتها القليلة. لا أشير هنا إلى ما نسميه عادة «القصيدة – الومضة»، فالحال في «ما يجعل الحب ساقاً على ساق» أقرب إلى ومضات شعرية مستقلة، لكنها في الوقت ذاته تشتبك مع ما قبلها وما بعدها لتشكل معاً قوام القصيدة واكتمالها مبنى ومعنى: «صوتي لم يكن عاثراً، كان معلقاً بين ضجرين صوتي لم يكن عابراً، كان صدى الأرض، في السماء» يلفت في قصائد هذه المجموعة الجديدة خروجها البين عن نمط القصيدة النسائية، واقترابها الأوضح إلى ما يمكن أن أدعوه هنا «قصيدة أنثوية» على ما في المصطلحين من فارق كبير يحمل القصيدة الأنثوية نحو مقامات مغايرة يجعلها تنبض أكثر بخصوصيات البوح الأنثوي، وفي الوقت ذاته بوهج الرؤى التعبيرية شبه الخفية عادة، والتي تحتاج إلى سياقات شعرية أعلى وأكثر رقة. هدي الدّغاري تمنح بوحها الشعري خصوصية العلاقة بينه وبين الشعر أو ما سأدعوه هنا نكهته الحميمة والتي تشبه بصمة فردية في خطوطها الكثيرة من ولع يبدو هادئاً في ظاهره، لكنه يمور بانفعالات حارّة. في القراءة المتأملة لتجربة هدى الدّغاري الشعرية الجديدة لا أستطيع إلا أن أتذكر تجارب شاعرات تونسيات لعل أبرزهن في الذاكرة آمال موسى، وإن تكن هدى تمتلك سياقات فنية خاصة ومختلفة، والكلام هنا لا يعنى بالمفاضلة بين الشاعرتين قدر اعتنائه بالإشارة إلى صعود ملحوظ لقصيدة الشاعرات التونسيات، خصوصاً في تجارب قصيدة النثر وهو ما نشير إليه في هذه المجموعة. ثمة أيضاً تلك النبرة شبه الخفية، الخافتة ولكن العميقة للحزن الفردي، وهي نبرة لا تميل إلى صور شعرية «حادّة»، ولكن إلى رسم مشهد شعري له تفاصيله، وله وهجه وتصاعده بكلمات قليلة، وإن تكن مكتملة وذات وجد جميل. «ما يجعل الحبّ ساقاً على ساق» صعود آخر لتجربة تعوّل على الشعر وتؤمن به، ولشاعرة تنشغل عميقاً بفن الشعر فتكتبه بعشق جميل.