×
محافظة المنطقة الشرقية

شبكة اجتماعية للمبدعين في مختلف المجالات الفنّية

صورة الخبر

يشهد العديد من البلدان العربية ما يمكن أن ندعوه سباقاً إلى الهاوية. لهذا لن تكون سورية نموذجاً فريداً لا يتكرر في بلدان أخرى وإن بأشكال مختلفة. وإذا حاولنا أن نحدد أسباب الانهيارات والتصدعات، نلحظ أنها تعود إلى ذات الأسباب البنيوية، أما الخلاف فينحصر في إطار التجليات الظاهرية. من البداهة بمكان أنَّ عوامل الأزمة البنيوية التي مهّدت لمعاناتنا الراهنة تتزامن وتتقاطع وتتراكب مع الميول الدولية العامة: «إذا استطاعت الرأسمالية أن تتحالف مع أشكال إنتاجية قبل رأسمالية، فإن أحداً لن يستطيع التنبؤ بالمآلات التاريخية التي يمكن أن تؤول إليها الأمور»، فكيف ونحن أمام قوى رأسمالية تتحالف مع تلك الأشكال وتعمل على توظيف تنظيمات وحركات ومجموعات جهادية إسلامية موغلة في التخلف والقهرية؟. فهذا بالتأكيد سيعطينا مؤشراً إلى أننا مهددون بالسقوط في مستنقعات وكوارث قلّما شهدها أو سيشهدها التاريخ البشري. وتتزامن ميول الرأسمالية في تصنيع وتصدير أكثر أشكال التخلف والعصابية المحمولة على ميول دينية جهادية وتكفيرية مع عوامل أزمتنا العميقة: سياسية، تتمحور حول احتكار السلطة وتجفيف تربة العمل السياسي المعارض، واقتصادية، تتجلى في عدم بلورة مشروع تنموي استراتيجي، وقد شكّل تقاطع ذلك مع انتشار مظاهر الفساد وهدر الثروات وتفاقم النهب، أهم الأسباب التي ساهمت في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وثقافية، تتجلى في تراجع تأثير الفكر العلماني مقابل انتشار واسع للفكر والوعي الديني المتشدد الذي يميل في لحظات التأزم إلى العقيدة الجهادية. وشكّل غياب الحريات السياسية وازدياد معدلات الفقر، البطالة أرضية خصبة لنمو الأفكار المتطرفة والميول السلفية ومظاهر التدين. إن كان ما نشهده من تحولات عاصفة يعود في بعضٍ من أسبابه إلى عقود ماضية، فالتنظيمات والمجموعات المحمولة على فكر جهادي متطرف تعمل على توظيف الظروف الموضوعية السياسية والثقافية والاقتصادية السائدة وفق آليات وأشكال تخدم تمدد مشاريع أيديولوجية دينية تكفيرية. في السياق واللحظة ذاتهما تشتغل الأنظمة المحمولة على فكر عقائدي سياسي أحادي على إعادة إنتاج البنية السياسية والأمنية للسلطة المسيطرة ذاتها. لكن التقاطع في آليات التفكير والممارسة بين الطرفين الديني المتطرف والسياسي الأحادي لا يلغي الاختلاف والتمايز بينهما. ويكمن ذلك في أن جذور العقيدة الجهادية التكفيرية تعود إلى عصور الظلام والانحطاط. إضافة إلى ذلك يعمل مشايخها ودُعاتها على تبرير جرائم المجموعات الجهادية التي تستهدف تدمير الإنسان، وكل ملامح التاريخ والحضارة الإنسانية، بالاعتماد المشوه والانتقائي والمجتزأ على بعض النصوص من القرآن والسنّة. وإذا كان التاريخ لا يكرر ذاته إلا على شكل مهزلة، فما يقوم به تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) وبقية المجموعات السلفية الجهادية يتجلى في الاشتغال على استعادة أكثر اللحظات التاريخية عنفاً وتخلفاً وقهراً. وفي سياق ذلك يتم إجبار الأقليات وفي شكل خاص الدينية على اعتناق عقيدتهم، أو دفع الجزية «صاغرين» وإلا فالتهجير أو القتل. ولا تقف تلك المجموعـات عند هذا الحد، لكنها تستهدف بالقتـل كل من يـخـالفها التفكير والممارسة، علمانيـاً كان أو مسلماً. أما في ما يتعلق بالسلطة السياسية، فتعمل في سياق الحفاظ على بنيتها الأحادية الشمولية، على مواجهة حركة التاريخ التطورية. ويتجلّى ذلك من خلال ممارسة كل أشكال القهر والعنف ضد كل من يخالفونها الرأي، سواء اندرجوا في أطر معارضة سياسية أو لم يندرجوا. لكنّ مكر التاريخ أدخل السوريين في أتون حرب متعددة الأطراف، ومتراكبة المستويات، يتصارع فيها المدافعون عن السلطة الأحادية مع جحافل المجموعات الجهادية و»معارضات معتدلة»، وجميع هؤلاء يرون أن لغة العنف والقهر والاستئصال تشكّل المدخل الوحيد لتحقيق أهدافهم. أما ضحايا تلك الحرب فإنهم: الإنسان المقهور والمجتمع والاقتصاد والتاريخ والحضارة الإنسانية والجغرافية. فالإنسان والمجتمع يتم تدميرهما بكل الوسائل وعلى مختلف المستويات والأشكال، فيما بالنسبة للاقتصاد، وإضافة إلى مظاهر النهب المستشرية، يتم تهديم وتدمير البنية التحتية ومصادر الثروة. أما التاريخ والحضارة الإنسانية فيتم الاشتغال على تحطيمهما وإزالتهما من دائرة الزمن والجغرافيا، وهذا يصب في سياق الاشتغال على مسح ذاكرة الإنسان وتفريغها من أي إرث أو تاريخ حضاري، وصولاً إلى سلخ الإنسان عن تاريخه الحضاري. وبخصوص الجغرافيا، يتم الاشتغال على إزالة الحدود الراهنة، وإعادة تقسيمها في سياق تتحول معه حدوداً لمجرد جمّاعات عرقية، عشائرية، طائفية، مذهبية متخارجة ومتصارعة. وهذا يتزامن مع نبش خزائن العقائد البائدة وتظهير أكثرها تخلفاً وتعميمها بالقوة القهرية في سياق القضاء على أشكال التمايز والتنوع الإنساني الفكري والثقافي. أما الغائب عن المشهد فطرفان، الأول: فئات ترفض الانتماء إلى أي من الأطراف المتصارعة. والثاني: حملة الفكر التنويري والحركات السياسية المدنية والعلمانية، وأنصار الحل السياسي السلمي. وحتى لا نستمر في سباقنا إلى الهاوية والمجهول من المآلات، بات واضحاً أننا في حاجة إلى استنهاض العقلانية الموضوعية والإنسانية والقيم الأخلاقية ومن يحملون هذه القيم. وهذا يستدعي من الجميع العمل على إنهاء الصراع والتمسّك بالعقلانية والموضوعية ومصالح المجتمع العامة والأساسية والحفاظ على التنوع والتكامل الاجتماعي، ووحدة أوطاننا ومجتمعاتنا.