الفن دائماً سباق إلى حل ما لم تحله السياسة، وهو كذلك على مر التاريخ، إذ إن السياسة غالباً ما تفرّق، بينما الثقافة، والآداب والفنون من ضمنها، جامعة، بغض النظر عن التفاوت في المواقف السياسية. وفي رصد للمسلسلات السورية التي تعرض في رمضان، يشارك ممثلون في مسلسل واحد يجمعهم، على الرغم من تباين مواقفهم السياسية من النظام السوري. كما ظهر للتلفزيون السوري معايير محددة لاختيار عرض بعض الأعمال الدرامية، التي لم يسلم عدد منها من القص، إذ عرض التلفزيون حلقات مبتورة بفعل الرقابة، من بينها العراب. المقارنة بين الأعمال الدرامية السورية، التي قبل التلفزيون السوري بعرضها على شاشته، وبين التي رفضها، ليست محور الحديث. لكن المتابع للأعمال الدرامية السورية يرصد أن جزءاً منها كان يلامس الواقع، وتناول الثورة ضد النظام، في حين بقيت مسلسلات أخرى تتناول القضايا بصورة رمزية أو مواربة، بينما وقفت أعمال في صف نظام البراميل المتفجرة. وجوه وأماكن يعد مسلسل وجوه وأماكن عودة للفنانة يارا صبري للوقوف أمام الكاميرا بعد غياب أربع سنوات منذ اندلاع الثورة السورية، وهو عمل درامي يجمع عدداً من الفنانين السوريين المعارضين، على رأسهم الفنان جمال سليمان وسوسن أرشيد وعبدالحكيم قطيفان وغيرهم. وهو من إخراج هيثم حقي، ويتناول الحال السورية منذ انطلاق الثورة في تونس، من خلال عائلة دمشقية، يكتنفها الحب والاحترام إلى أن تأتي شابة تغوي رب العائلة، ومن هنا تبدأ الحكاية بالتحول إلى مشاعر متناقضة تعيش في قلب كل فرد فيها، خصوصاً بعد اندلاع الثورة في سورية. هذه التفاصيل تحديداً تعيدنا إلى حال المسلسلات السورية قبل الثورة، حيث كان يتسم جزء منها بالجرأة التي تتواكب مع خاصية التنفيس، التي لها علاقة بإيهام المتلقي بأن سقف الحرية مرتفع. لكن المتلقي لم يلاحظ أن هذا السقف لم يصل إلى حد الحديث عن الظلم والفساد والقتل وتكميم الحريات في مسيرة النظام. إذ اتجهت مسلسلات إلى فانتازيا التاريخ. وللبحث عن أعمال درامية اختلفت برؤاها حسب كتابها ومخرجيها، من الجدير ذكر ممثلين سيكون لهم بصمتهم هذا العام بسبب أداء من الصعب تجاهله من شدة الحرفية فيه، من بينهم كاريس بشار ونظلي الرواس ومكسيم خليل وعبدالمنعم عمايري وضحى الدبس في مسلسل غداً نلتقي للمخرج رامي حنا. إذ قدم هؤلاء الممثلون أدواراً استثنائية، في عمل يكاد يكون الأقرب إلى الواقع الذي يعيشه اللاجئ السوري، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ضم فريق العمل أسماء لممثلين مختلفين في مواقفهم أو وجهات نظرهم السياسية المحصورة بين مع وضد النظام السوري، وهو ما وجده كثير من المتابعين خطوة تدل على أن الفن هو جامع لمن تفرقهم السياسة، وهو مبادر وسباق في حل ما تعجز عنه السياسة. براعة وردة، وهي الشخصية التي تؤديها كاريس بشار، استطاعت من خلالها ببساطة أن تعبر ربما عن سنين عمرها الفنية في شخصية واحدة قادرة على إيضاح كل المشاعر التي من الممكن أن توجد في شخص واحد. إذ إنه دور لا يقل براعة عن دورها الذي أدته العام الفائت في شخصية بثينة في مسلسل قلم حمرة للمخرج حاتم علي. لكن هذه المرة الكاميرا مسلطة عليها بشكل مباشر، وهي تجسد دور اللاجئة السورية في لبنان، التي تعيش بغرفة في عمارة متهالكة يقطنها أمثالها من اللاجئين السوريين. وتقوم وردة بالعمل في غسل الموتى، وهذه الجزئية تجعلك تحار في شخصية تكاد البسمة لا تفارق وجهها، قادرة في الوقت نفسه أن توصل لك مدى القهر عندما تعبر عنه امرأة ببساطة خسرت حياة كاملة في وطنها، وتحاول جاهدة أن تبني أملاً منوطاً بالحصول على تأشيرة إلى أميركا أو أي مكان آخر. اسمها وردة لم يأتِ مصادفة، فلها من اسمها نصيب في كل التحولات التي تطرأ على مشاعرها والصراع الداخلي الذي لا تبوح به إلا مع نفسها وأمام مرآتها، علاقة حب من طرفها وحدها تجاه الشاعر محمود، الذي يؤدي دوره عبدالمنعم عمايري. ومن المعروف تميز عمايري الإبداعي، فهو فنان من الصعب أن يختلف اثنان على قدرته الابداعية في تجسيد أنواع مختلفة من الشخصيات والابتعاد عن التكرار. هذه العلاقة المبنية على حلم يشبه أي حلم آخر، له علاقة غير مباشرة بتحول الواقع إلى آمال وأحلام، وهي العلاقة ذاتها التي تختصرها بين من يغسل الموتى وبين من يكتب الشعر عنهم. ذكاء في البناء الدرامي للشخصيتين وردة ومحمود، تجعلك تبحث عن الشخصية التي أداها الفنان مكسيم خليل المعروف بمواقفه المساندة للثورة السورية، مع أنه يؤدي شخصية تقف إلى جانب النظام السوري ويلعن دائماً الحرية، واسمه في العمل جابر. وأمام أداء مكسيم خليل، تدرك مدى أن يتوافق نص لا يشبه الحقيقة مع أداء ممثل أراد أن يقنع الجمهور به. وفي المقابل لابد من الإشارة إلى الفنانة نظلي الرواس في شخصية خلود، التي أثبتت فعلاً في هذا العمل تحديداً، وهي التي تؤدي دوراً معقداً من شدة العاطفة فيه، أنها ستترك بصمة فنية من الصعب نسيانها، فالفنانة قادرة على أن تجعلك تشعر بأنك مكانها ببساطة، فتعبيرات وجهها وردود فعلها تقترب إلى الطبيعية أكثر من التمثيل، وتجسد زوجة قاتل زوجها من قلة الحيلة وقلة الأمل بغد أفضل، ومعها الفنانة ضحى الدبس التي باتت أيقونة في تجسيد دور الأم. كل هؤلاء استطاعوا أن يتسقوا مع نص من كتابة إياد أبوالشامات ومخرج العمل رامي حنا. تعتيم في المقابل، ومن وجهة مختلفة، تتأسف على عودة مسلسل دنيا الذي قدم الجزء الأول منه عام 1999، وكان حديث أغلب الناس من شدة خفة الظل فيه، خصوصاً مع أداء بطلتيه أمل عرفة وشكران مرتجى، وكانت قصته عن فتاة سورية بسيطة تغادر قريتها إلى دمشق لتعمل خادمة في المنازل حتى تجمع مبلغاً لكي تسترد أرض سلبها أخوها الأكبر منها. وكان الجزء الأول لا يخلو من إسقاطات سياسية في حينها. لكن الجزء الثاني منه، وبعد مضي أكثر من 15 عاماً، يعود مع البطلتين بتوقيع المخرج زهير قنوع، كي يحكي حكاية دنيا بمفهوم آخر، له علاقة بوجهة نظر تحاول أن تعتم على الحقيقة. فلم تعد الطرفة فيه تتحمل كمية التجاهل لفئة كبيرة من السوريين كانت تهمتهم أنهم أرادوا الحياة، حتى في طريقة الأداء الكوميدية التي عرفت بهما البطلتان أمل عرفة وشكران مرتجى، تراها لم تحترم حتى قيمة الجزء الأول، فالمبالغة حاضرة كما القصص، وطريقة تناول ما يحدث في سورية لا يحتمل سوى وجهة نظر النظام الحاكم، حتى لو كانت ثمة محاولات بائسة للتوازن. الغريب أن العمل هو الآخر يحكي قصة اللاجئين والنازحين السوريين، لكن من دون أن يحمل النظام أي مسؤولية، بل بالعكس يقوم فقط برصد من يتاجر بهم، ومن يضحك عليهم ويستخف بعقولهم، ويسرق معوناتهم، وكأن كل هذا يحدث من دون علم المسؤولين. أعمال سورية عادت إلى الواجهة حملت معها هموم الحال السوري، لكن الأغلبية لم ترد أن تكون مساندة لواقع يفرض نفسه على كل نفس ذاقت الموت، وكل نفس هُجّرت وكل نفس تم اعتقالها. لم تكن أغلب الأعمال على مستوى يراد منه إعطاء أمل ولو قليلاً، لذلك السوري خصوصاً، والعربي بشكل عام، أن ثمة من يقف مع قصته، والمسلسلات السورية التي كانت اقرب إلى الواقع تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة.