×
محافظة المنطقة الشرقية

أمانة العاصمة المقدسة تراقب 35 ألف محل للمواد الغذائية

صورة الخبر

كأن سياسيي العراق، أو ساسة الكتل الأكثر نفوذاً فيه، يعيشون في كوكب آخر: خطب وتصريحات تتحدّث عن الوحدة الوطنية وتحذيرات لمن يريد المسّ بوحدة العراق، واقتطاف رأي نُشر في هذه الصحيفة الأميركية أو تلك لإقناع جمهور انحطّ وعيه بأن تقسيم العراق موقف حكومي أميركي يكشف عن مؤامرة. هي الآلية البعثية نفسها التي ترى أن كل ما لا يتوافق مع أفكارها مؤامرة. آلية ترى الوقائع على الأرض من خلال أحلامها وأوهامها. لكن أدوات البطش التي امتلكتها السلطة البعثية وتفرّدها في الحكم مكّنتها من وضع رؤاها الجهنّمية موضع التطبيق. فالكشف عن «مؤامرة» كان يستتبع تدميراً للمتآمر وإعلانه أداة في يد متآمر أكبر تم إحباط مخططاته. أما الآن فالساسة يلوكون الوهم في الخطب ويعانقون «المتآمر» متظاهرين بأنه ليس المقصود بالاتهام، بل هم يتحدّثون عن عدو افتراضي قد يسعى لتقسيم العراق. لم تغيّر الحجج يوماً رؤى السياسيين للعالم وللأحداث. لكن القوى التي لم تضمحل تعاطت مع العالم كما هو لا كما تريد. ليتأمّل الفاعلون في السياسة العراقية في الانتصار الانتخابي الذي حققه الكرد في تركيا المتماسكة كدولة وليتأمّلوا في انتصارات أكراد سورية على «داعش». وليس مطلوباً، وإن كان مرغوباً، أن يتخلّى ساسة العراق عن تفسيراتهم لأسباب تسارع خطوات كردستان نحو التحول إلى دولة كاملة السيادة. ليصوّروها مسعى شعب لتحقيق حلم عمره قرن، ليصوّروها مؤامرة تستهدف تفتيت العراق، ليصوّروا القادة الأكراد متآمرين وأعداء، ولكن ليصارحوا أنفسهم وجمهورهم بأن ثمة واقعاً يعرفونه ويعرفه جمهورهم أيضاً بأن هذا الحلم أو هذه المؤامرة إن شاؤوا على وشك التحقق، وأن المطلوب ليس إلغاء الواقع بل التفكير بكيفية التعاطي معه. أسعى إلى ألاّ أكرر ما كتبت هنا قبل أشهر. ولكن، وباختصار، العلاقة بين بغداد وأربيل اليوم أضعف من العلاقة بين دول الاتحاد الأوروبي. ثمة اختلاف بين الدول الأوروبية في تحليل هذا الحدث الخارجي أو ذاك، ولكن ليس ثمة اختلاف بينها في تحديد الحلفاء والأصدقاء والأعداء وفي تحديد أولويات السياسة الخارجية. منظور «الإقليم» للعلاقة مع تركيا وإيران ودول مجلس التعاون وأميركا يكاد يكون معاكساً لمنظور بغداد. بين دول الاتحاد الأوروبي تنسيق كامل حول تبادل المطلوبين للقضاء وكردستان تؤوي كثرة ممن تطالب بهم بغداد. بين دول الاتحاد سياسة دفاعية موحّدة وليس ثمة تنسيق بين أربيل وبغداد حول مواجهة «داعش». بل إن «الإقليم» يعكف الآن على صياغة دستور يختلف من حيث أسسه عن دستور «الاتحاد» من دون اهتمام بالرجوع إلى برلمان الاتحاد أو المحكمة الاتحادية التي يفترض أن تبتّ في دستورية الدستور الكردستاني. نظام «الإقليم» رئاسي ونظام الدولة برلماني. ولأن الأمر هكذا، فإن استمرار التظاهر بأن كردستان إقليم تابع للعراق يعرّض حكومة بغداد لمهانة تتزايد مظاهرها كل يوم. ولأن الأمر هكذا، تتزايد أحقاد العراق العربي تجاه كردستان وتتعقّد حتى مجابهة العدو المشترك الداهم المتمثّل بـ «داعش». من مصلحة القوى السياسية العربية الفاعلة في العراق، لا سيما قوى الإسلام السياسي الشيعي والأطراف السنية التي تشاركها الحكم، الدعوة إلى حوار وطني لا يلوك خطابات عن أمنيات لم تعد قابلة للتحقّق، بل الخروج بموقف يعلن على الأقل أنه «أخذ علماً» برغبة الشعب الكردي في الاستقلال وتكوين دولته الخاصة. دعوة كهذه لا تتطلّب سوى قبول الوقائع التي يعرفها الجميع: أيها الإخوة والأخوات، كردستان تسير نحو الاستقلال، فما العمل؟ حروب أنظمة حكم متعاقبة منذ 1961 لم تنجح في تغيير الأمر، وعنتريات رئيس الوزراء السابق نوري المالكي عززت رغبة الكرد بالاستقلال. ليؤيد من يؤيد انطلاقاً من مواقف مبدئية أو مصلحية، وليهاجم من يهاجم ولكن لينتهِ الجميع إلى إقرار صريح بمعرفتهم بما يعرفون ويعرفه الكرد ويعرفه العالم بأن كردستان سائرة نحو الاستقلال. ليس مطلوباً من رئيس الوزراء، في الوقت الحالي على الأقل، تبنّي الدعوة إلى حوار كهذا. ذلك أن خطوة كهذه من جانبه لن تعني انتحاره سياسياً فقط، بل هي تعني القضاء على بذرة أمل بمصالحة عربية شيعية – سنّية، وهي لا تزال بذرة لا تحتاج إلى عاصفة بل إلى نفخة بسيطة لتذروها في الفضاء. مبادرة كهذه باتت أكثر من ضرورية وعليها أن تلحق بالزمن، لكن تبنّي الحكومة لها سيقدّم أكبر هدية للسيد المالكي إذ يصوّر عنجهية ثماني سنوات من حكمه دفاعاً عن وحدة العراق ويسهّل له تعبئة حشده الشعبي وجمهرة غوغاء هائلة لن تسقط الحكومة فقط بل تدخل العراق في حرب، بل حروب، أهلية. مطلوب مبادرة لا تقتصر على مثقفين أو سياسيين علمانيين لا ثقل سياسياً كبيراً لهم، بل يقودها فاعلون في الوسط الشعبي كالصدريين، فتطرح مشروعاً واقعياً يعلن أن مشكلة العلاقة بين كردستان وبغداد لا تكمن في تلكّؤ بغداد عن تسديد حصة كردستان من الميزانية ولا في تصدير الأخيرة للنفط خارج ما اتّفق عليه الطرفان، بل هي قضية (لا مشكلة) شعبين لم يعد ممكناً تعايشهما في ظل كيان سياسي واحد، سواء كان الأمر مؤلماً أم مفرحاً. مطلوب من مبادرة كهذه أن تقترح جدولاً زمنياً لفترة انتقالية متّفق عليها بين بغداد وأربيل لتسهيل عملية انتقال السلطة السيادية على كردستان للأخيرة. مطلوب من مبادرة كهذه أن تحدد الخطوات التي ينبغي التدرج في السير فيها، وهي خطوات قد تحاول الشعبوية الكردية أن تبسّطها وتختزلها إلى استفتاء يعلن فيه الكرد دولتهم المستقلة ويتحول من خلاله قصر رئاسة الإقليم إلى قصر رئاسي. مطلوب من مبادرة كهذه أن تحدد حقوق والتزامات كل من الطرفين عسكرياً واقتصادياً وكيفية التدرج في تنفيذها وحصّة كل منهما في توزيع المغانم والمغارم. مطلوب منها أن تحدد مستقبل الوحدة النقدية، أي فك الارتباط بين الدينار العراقي وعملة كردستان. ومطلوب منها توفير الاتفاق على استراتيجية دفاعية مشتركة بين جيشين حليفين تجاه «داعش»، وهي استراتيجية غير قائمة بين «الإقليم» والدولة التي يتبع لها. وقد أجّلت إلى النهاية المشكلة الأعقد المطلوب حلها بين الدولتين: عائدية المناطق المسمّاة «متنازع عليها» وأهمّها كركوك. حين يتم الاعتراف بأن الأمر يتعلق بدولتين لا بين سلطة اتحادية وإقليم تابع لها، يمكن، ويجب، عرض الأمر على محكمة العدل الدولية المتخصصة في حل النزاعات بين الدول، لا بين دولة وإقليم تابع لها، وعلى الطرفين القبول بما تتوصل إليه المحكمة. أتوقّع بأن الساسة الكرد سينظرون بلامبالاة إلى الدعوة إلى مبادرة عراقية كهذه التي أدعو إليها. أتوقع أن يروا في الأمر شأناً يخص العرب ولا يخصّهم. لامبالاة تنطلق أولاً من الشعور بالزهو بما حققوا، وقد حققوا الكثير، وإلى الإحساس بالتالي بأنهم ليسوا بحاجة إلى إقرار من جانب عرب العراق بحقهم، فقد فرضوا دولة كردستان كأمر واقع وليفعل الآخرون ما يريدون. وأتوقع ثانياً أن يشعروا باللامبالاة يائسين من إمكانية تغيير موقف العرب من حقهم في تكوين الدولة. لن تنعم كردستان ولا العراق بالاستقرار ولن يتمكّنا من التطوّر ما لم يتم انفصال التوأمين بتوافق سلمي. من دون هذا سيرتمي العراق في أحضان إيران وسترتمي كردستان في أحضان تركيا. وليس شيعة العراق وحدهم من سيقف في وجه ذلك بل العرب السنّة أيضاً. ومع أن أكراد سوران أي نصف كردستان أو أكثر (السليمانية وكركوك ومحافظة حلبجة المستحدثة مؤخّراً) سيرحّبون بالاستقلال، إلا أن منظورهم للعلاقة مع بغداد ولعلاقاتهم مع المحيط الإقليمي سيفرض على الدولة الجديدة بلورة علاقة جديدة مع إيران لا تريدها قيادة أربيل. ومن دون حديث كبير في الجيوستراتيجيا فإن انفصالاً كهذا سيعني تصفيات حساب بين الدول الإقليمية على أراضي كردستان. ووهمٌ التعويل على أن أميركا والغرب سيكونان مستعدين للانحياز إلى طرف ضد آخر في صراع كهذا، أو لإعلان الحرب على إيران إن قررت الأخيرة أن دولة كردستان خطر عليها. ووهمٌ أكبر تخيّل أن كردستان ستصبح إمارة دبي المنطقة لمجرد رغبة قادتها بذلك أو لأنها تقيم مهرجانات وعروضاً فنّية على أراضيها. ووهم تصوّر أن قرابة نصف مليون كردي، يعيشون في بغداد ومناطق العراق العربي الأخرى، قادرون على فك ارتباطهم بها بسهولة أو أنهم راغبون به أصلاً. سذاجة أن نعزو لامبالاة القادة الكرد بموقف عرب العراق إلى قصور إعلامي أو دعائي. اللامبالاة التي مارسوها منذ 2003 خطأ جسيم. طوال اثنتي عشرة سنة كان الفرد العراقي، ولا يزال، يرى فيهم سياسيين يتصارعون وراء الكواليس للحصول على مكاسب ومواقع في السلطة وحصص لا يستحقونها من الثروة. لو أعلنت كردستان من اللحظة الأولى أنها دولة في طور التكوين، ولو أعلنت بغداد من اللحظة الأولى أنها تتعامل مع الأمر كذلك، لخفّ شعور العراقي بأن ثمة إقليماً يحاول فرض إرادته عليه. يمكن لمؤرخ أو روائي الكتابة عن «لو»، لكنها عبارة لا قيمة لها في عالم السياسة. دعوتي إلى الواقعية وتجنّب المواقف العاطفية تلخّص وتعكس ازدواجية موقفي في حقيقة الأمر. حلم عمر بأن يسود العراق نظام ديموقراطي علماني لدولة ثنائية القومية عجزت عن تبنّيه حتى حكومة انتقالية غير دينية، هي حكومة السيد أياد علّاوي الانتقالية عام 2004. محزن أن العلمانية في منطقتنا، لا في العراق فقط، انطوت على مسعى لمركزة سلطة تحاول فرض دكتاتوريتها وليس بوسعها نفض عروبية نزوعها. ودماء العرب والأكراد في العراق كانت على الدوام علف حيوانات السياسة. قرون من المجازر أوصلت شعوب الدول الديموقراطية إلى الإيمان بأن السيادة تعني سيادة الفرد حيث يكون وحيث يريد أن يكون لا سيادة الدولة على التراب. لكننا في كردستان كما في العراق لا نزال ننتشي بالسيادة حين نرفع التحية لهذا العلم أو ذاك. ولكن إن قبلنا بالديموقراطية فعلينا أن نذعن لرغبة البشر في التمتّع بعلمهم ونشيدهم الوطني. * كاتب عراقي