دأب المؤرخون على وصف كل زمن، بأبرز ما فيه، سواء من كشوفات العلم أو المناخ السائد، فهناك ما يسمى عصر البرونز نسبة إلى هذا المعدن الذي أحدث انقلاباً في التاريخ، وهناك أيضاً ما سُمي عصر المنجنيق، لكن عصرنا الذي شهد جُملة من الثورات العلميّة المتزامنة تعدّدت أسماؤه فهو عصر الإنترنت والعصر النووي وأخيراً عصر الويكليكس. حيث لم تعد هناك كواليس أو أسرار، كما أن الأكمات لم تعد تخفي وراءها شيئاً غير ظلّها. وما توقعه علماء وفلاسفة عن عصر يصبح فيه الإنسان عارياً حتى النخاع تحقق، وما تخيله أورويل من انتهاكات نسبها إلى ما سماه الأخ الأكبر تحقق أيضاً، بعد أقل من نصف قرن، وكذلك ما تخيله كونديرا التشيكي وريث الروائي كافكا في سوداويته وكوابيسه. الكاميرات في كل مكان وفي كل زاوية، بحيث يشكو معظم البريطانيين من كثرتها في شوارعهم. والتجسس لم يعد يعرف حدوداً، ولم يسلم منه رؤساء وقادة، بدءاً من المستشارة ميركل التي اخترق التجسس هاتفها الشخصي حتى قصر الإليزيه، أما الويكليكس فحكايتها من طراز آخر. وما أثارته قبل فترة من مجالات وملاحقات وفضائح تعود لإثارته اليوم، حيث ترد أسماء ومواقع، وتسجيلات يصعب تكذيبها وإن كان المتاح في مثل هذه الحالات هو التلاعب بالنيّات وحشد التأويلات، وإذا كان عصر اختراع العجلة قد أحدث انقلاباً كونياً في الصناعة، كما أحدث الفلكي كوبر نيكوس انقلاباً في عالم الفضاء، فإن الويكليكس وما قد يعقبها، دفع الناس إلى أقصى درجات التكتم في حواراتهم، فالهمس أيضاً مرصود! لهذا ستعود الحكمة القائلة بأن السكوت من ذهب والكلام من فضة، إلى نفوذها القديم. وقد يعقب هذا التحول الجذري في فقه النميمة افتضاح التاريخ برمته ونبش أسرار الموتى في مدافنهم، حيث يسعى العلماء إلى جمع أصوات من عبروا من الفضاء والهواء، لأنها لم تذهب مع الريح. وحين نقول إن هذا الانقلاب يتعلق بفقه النميمة فذلك لأن الويكليكس هي في نهاية المطاف اسم حركيّ أو مستعار للنميمة. فكلما رفع الستار عن مشهد كان مظلماً وصامتاً تندلع التعليقات بغثها وسمينها لتملأ الدنيا وتشغل الناس فهناك خصوم يشمتون بما يُنسب من مواقف لخصومهم، وهناك من يبحثون عن دليل فيجدونه بالصمت وأحياناً بالصورة. أما إلى أين سوف تمضي هذه المتتالية فما من أحد منّا يحزر ذلك!