شهر رمضان، شهر الصفاء والمودة والتواصل والعطاء والتراحم والتكافل والذكريات الجميلة، الصوم نعمة عظمى، عرفته منذ القدم، أمم وأديان وعقائد، يقول الله تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ولكن الصوم الإسلامي تميز بميزتين: الشمول والاعتدال: فهو شامل للكف عن جميع الغرائز والشهوات، وهو معتدل، ليس فيه من الإعنات الشديد بحرمان الجسد -24 ساعة متواصلة- من الماء والطعام، كما في صوم الرهبان البوذيين، كما ليس فيه، ذلك الإخلال في الامتناع الجزئي عن بعض الطعام كما في الصوم عند أمم أخرى. الظواهر السلبية: ينشط المسلمون في هذا الشهر الفضيل في التقرب من الله تعالى بالإكثار من الطاعات وبذل الصدقات وعمل الخيرات وصلة الأرحام وتوطيد العلاقات الاجتماعية والاسرية، وهم بذلك يزدادون ثواباً وتتضاعف حسناتهم ببركة هذا الشهر الفضيل، ولا شك أن هذه من الايجابيات المحمودة للمسلمين في هذا الشهر، ولكن ماذا عن فضائل رمضان العظيمة الأخرى؟ لا بد من مصارحة أنفسنا، فالحاصل أن مجتمعاتنا، في العقود الأخيرة، لم تستوعب دروس رمضان العظيمة، أفرغته من مضامينه وجوهره ومحتواه، لحساب مظاهره وطقوسه وعاداته وتقاليده، حولته إلى شهر للتكاسل والخمول، وهدر الوقت والمال والطاقة، تحايلت مجتمعاتنا على رمضان بنوم طويل في نهاره، وببذخ مسرف لمائدة إفطاره، وبسهر طويل في ليله. ماذا عن اقتصاديات رمضان؟ تباطؤ في النشاط الاقتصادي، وتقليص لساعات العمل، وتأخر في الدوام بسبب سهر الليل، وتراجع عام في الأداء الاقتصادي على مستوى الدولة، وتعطيل لمصالح الناس، وكلها أمور تتنافى وأهداف وحكم الشهر الفضيل، ففى هذا الشهر تحقق أعظم انتصارات المسلمين بدر وفتح مكة وفي هذا الشهر ينبغي على مجتمعاتنا، شحن طاقاتها الروحية والنفسية، والتحرر من عطالتها التنموية، شهر يفترض فيه أن يتفانى الإنسان في عمله ويخلص في أدائه وينجز مصالح الناس، ويضاعف الإنتاج والتنمية. وأما في الجانب الاستهلاكي: فحدث ولا حرج، من منا لم تتضاعف ميزانيته التموينية؟ والمؤلم أن مصير معظم تلك الصنوف من الأطعمة، الرمي. أما عن السلوكيات، فكثيرون يزدادون عصبية وانفعالاً، ويثورون لأتفه الأسباب، بحجة أنهم صائمون حوادث المرور تزداد بسبب التزاحم والتسرع وافتقاد الصبر. وأذا تحدثنا عن الفوائد الصحية لرمضان، فذلك أمر بعيد مع إسرافنا في تناول صنوف الأطعمة والحلويات طوال الليل، ومن منا لا يزداد وزناً -إلا القلة- في آخر رمضان؟! كيف نتمثل فضائل رمضان؟ يقول الله تعالى والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا، ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً والرسول صلى الله عليه وسلم، كان كريماً جواداً وبخاصة في هذا الشهر الكريم، لكنه الكرم العقلاني الرشيد الذي يفرق بين التوسعة على الأسر والمحتاجين، والإسراف الذي يراد به المظاهر الاجتماعية وهدر النعمة. للإعلام والمنابر الدينية، دور بارز في التوعية، ولكن التوعية وحدها لا تكفي، في البدء، تربية يجب أن يربى عليها النشء الجديد، وهناك تركيبة مجتمعية، وأوضاع اقتصادية ريعية يجب أن يعاد النظر فيها، ونحن ولله الحمد نمتلك من تعاليم ديننا ومن مبادئنا ما يمكننا من علاج هذه السلبيات ولكننا بحاجة إلى عزم وإراده وتصميم. إن معاني الصوم وحكمه عديدة، أبرزها: مراجعة المرء لنفسه بدءاً بتجديد وتقوية علاقته بربه، بالإكثار من الطاعات وبذل الخيرات، مروراً بعلاقته بذاته، بمحاسبتها والسمو بها وتهذيب السلوك والتجاوز عن الإساءات، وانتهاء بتحسين علاقته بالاخرين بزيادة الترابط وبذل المودة والتسامح والبر والإحسان، كذلك على مجتمعاتنا مراجعة ذاتها عبر الحوار المجتمعي الشامل، بهدف تعزيز الانتماء الوطني الأعلى ونبذ الفرقة والانقسام وترسيخ ثقافة التسامح والاعتدال، تطويراً للذات المجتمعية، وارتقاء بالسلوك العام، والعمل الدؤوب لتجاوز الهوة إلى عالم الازدهار، والانشغال بالمستقبل، والإقلاع عن تقديس فكر السلف والتغني بالماضي على حساب الحاضر والمستقبل، وعلى مجتمعاتنا، تصحيح الصورة النمطية عن الاخرين، بتأثير الرواسب النفسية والتاريخية عن الاستعمار والحروب الصليبية وأوهام التآمر العالمي والغزو الثقافي، للانشغال بخطاب متصالح مع الذات ومع الآخر ومع العصر.