ابان ثورة العبيد الهايتية ١٧٩١- ١٨٠٤، ارسل نابليون فيلقاً بولندياً مع الجيش الفرنسي لإخماد هذه الثورة، هذا الفيلق لم يقم بمهمته، وشارك العبيد في ثورتهم ضد الاسياد الفرنسيين. وبانتصار العبيد، اقيمت مذبحة للبيض الذين قادوا الثورة المضادة، ولكنهم لم يبيدوا كل البيض، حيث ناضل البولنديون البيض مع العبيد السود لتحريرهم، وفقاً لهذا، اعلنت جمهورية هايتي الحرة أن كل المواطنين سود بصرف النظر عن لون بشرتهم !. مشهد ديالكتيكي هيجلي!، بتقسيم الإعلان إلى شطرين: كل المواطنين سود - واضح جدا!، بصرف النظر عن لون بشرتهم - معقد جداً!، انه نقض الذات والتشيؤ نحو الذات الاخرى، في الحفاظ على المنقوض الاول، وهكذا يدخل في تركيب غريب، كل المواطنين سود، بغض النظر عن لون بشرتهم. بمثل الطريقة، نتعامل اليوم مع القراءة، وبهذا المعنى: الكتابة كذلك، اقرأ اي شيء لتصبح كاملا!، او الحكمة تأتي من قراءة كل الكتب، اقرأ ولا تهتم ماذا تقرأ .. فقط اقرأ!. القراءة كفعل، تُنقض، بالجملة التي تليها، كل شيء. ويتفاخر البعض بعدد الكتب التي قرأها، ولكنهم ينقضون المبدأ ذاته، في القراءة أعني، أقرؤوا الروايات! .. والقصص الجميلة، حسنٌ!، جميل جداً، ومبادرة متقدمة في احياء ثقافة القراءة، ولكن لماذا نقرأ؟، كيف من خلال القراءة، بمفهومها التجريدي سيتقدم اي شيء؟، ووفقاً لهذا المنطق، الكل اصبح كاتباً اجتماعياً، يحلل التحولات الاجتماعية، باختزان هذا المبدأ في كينونة انتاجه، حيث الجمهور يحتاج ان يقرأ اي شيء، هرائي ام لا، نحن نحتاج الى ان نقرأ!، فيصعد على خشبة مسرح الكتابة، كاتب سقيم يكتب كل اللاشيء، ويستمع اليه جمهور كثيف، لأن قوله لا يقول، ولا ذاته تتحرك، انه يقول ما نقول، فيستحق التصفيق!. القراءة ليست سحراً، ولا تعطي اجوبة او حكماً سخيفة باعتبار ان الحكمة شكل من اشكال الغباء السخيف، بل هي وسيلة، لفهم منظور كاتب الكلمات، والحفاظ عليه. فالقراءة، اذن، تتعامل مع افراد يكتبون ما يدور في عقولهم، او بأكثر دقة، ينتجون معرفتهم ورقياً، فالكتاب ليس فيتشياً، بل هو يمثل صيرورة فكرية انتاجية للكاتب الفردي، وبنشرها، يقوم بنشر هذه المعرفة التي بدت له بشكل واضح خضم انتاجها. خلال هذا، يبدو واضحاً ان القراءة ليست بريئة آلتوسير، كل قراءة هي، بشكل او اخر، مذنبة، ونزيد على ذلك، كل كتابة، في المقابل، ليست بريئة كذلك. القراءة البريئة، على شاكلة: اقرؤوا اي شيء!، ليست موجودة، رغم الاعلان عن براءتها، لأنها تعني لا تقرؤوا شيئاً على الاطلاق، رغم ان هناك كلمات مكتوبة، ولكن في شمول الاعلان هذا، نجد تجاوزاً للمفهوم ذاته، اعني في فعل القراءة، فالبراءة تدحض ذاتها، لأنها تدعو إلى قراءة ايديولوجية معينة، تصالحية، ما بين العقل والنص المؤدلج بتعاطٍ متبادل في مثل نظام القبول، الذي يخلق الواقع الخيالي - او المتخيل، في تشكيل الوجود البديهي. فانها الكتابات البديهية السهلة، التي تخدم مفهوم اقرؤوا كل شيء، تسود الفضاء الفكري اليوم في العالم العربي على الاقل، لأن في الجانب الاخر نجد ناشرين مستعدين لنشر هذه الترهات، وليس لنا هنا سوى ان نقوم بتذكير القارئ بمقالة الكاتب الكويتي طالب الرفاعي المعنونة بـ : ناشر مخادع وكاتب متواطئ، حيث تحدث عن كيف يتواطئ الكاتب مع الناشر المخادع في طبع الكتب بشكل كثيف، ملاحظاً ان بعض الكتاب الذين يطبعون خمسين نسخة، هم في الواقع يأخذون اكثر من نصفها، موزعين الباقي على المكتبات، وحتى تصل عدد طبعات الكتاب الى اكثر من اربعة عشر طبعة !. هذه ملاحظة موفقة، ولن تلقى ترحيباً بالطبع، لأنها تستهدف كل مقومات النشر والكتابة الموجودة اليوم، ولنا ان نضيف، ان الامر ليس ذنب الكاتب السيئ، او الناشر المخادع وحسب، بل غياب تيار نقدي حقيقي، يغرس يديه في الأعماق، فأنه نقدٌ، والنقد لم يكن يوماً نظيفاً، ثورة لكن بشكل آخر، اكثر الامور وساخة!، ولكن السادة الكتاب النبلاء لا يريدون توسخة ثيابهم، لنا يدان نظيفتان! لماذا نزعج ذاتنا بالنقد؟!، كيف يمكن للكاتب الطاهر ان يقوم بهذا ؟!، وبينما يتساءل النبلاء التنابل حول اذا كانوا يريدون الاستيقاظ، يسود الوضيع ويحكم بمنطق الوضاعة. الواقع ليس قائماً على حرب ما بين الكتابة الجادة والكتابة السيئة، بل بمحدد وجود النقد او لا، وليس اي نقد، لا نريد نقداً مترهلاً توافقياً، يخجل من الكلمات، حروف بين وبين، بل نقداً فكرياً قوياً، يحمل مطرقة في يده، هو تحطيمي وتدميري. وفي المقابل، لا نريد ان نصلح القارئ، وقد لاحظ سبينوزا هذا الامر في كتابه رسالة حول اللاهوت والسياسة، حيث دعا في المقدمة ان لا يقرأه القارئ العادي، فهو يقول اذا لم تكن فيلسوفاً لا تحاول ان تقرأني، لأنه يدرك، بعبقرية!، ان معظم القراء استخداماً لكلمته واقعين في الوهم، اي علاقات وهمية بينهم وبين بعض، مما لا يسمح لأي تقبل للنص النقضي المطلق الذي كتبه في ذلك الوقت، الذي اباح رجال الدين دمه بسبب هذا الكتاب، فهو يدرك ان هذه العلاقات المتخيلة، او بكلماتنا: الايديولوجيا، هي التي تخلق القراء، الذين لا يتقبلون النص النقضي الثوري، لأنه يخرج عن دائرة الوهم، الذي يوهم ذاته بأنه ليس وهماً، فهو وهم موهوم بأنه ليس كذلك. ولكن القراء يريدون قراءة كل شيء، بمنطق الوهم، نصف بوذي في الحقيقة، ستتعرف على مجمل زوايا روحك!، تغذية الروح من خلال القراءة!، خفايا الذات تظهر من خلال قراءة الكتب!، وكل هذا من اجل معرفة الفرد لذاته الفارغة. ويُلاحظ ان حيز الفكر، في النشر اليومي، ضئيل جداً، وهذا يعكس الواقع، حيث الفكر لا يعلو مسرح الجدل والنقاش، بل لا يوجد جدل او نقاش، وهذا ما يسمح لأي كاتب ان يكتسب كلمة كاتب، وهذا يسمح لأي ناقد هادئ يلقب بناقد، ولأي قارئ موهوم بقارئ، والامر في يدك الان!، اذا اردت ان تصبح كاتباً، وناقداً، وقارئاً، انضم الى جوقة المستحمرين، والا انزع هذه الصفات من ذاتك، انها وهمية، لا معنى لها الا في حيز الانتاج الوهمي لها .. لا تقرأ .. فكر! ولا تقرأ! ..