عندما تنقلب ممارسة الدّين من شعائر روحية ذاتية، تسمو بجوارح وأفكار ونوازع الفرد الممارس نحو الأفضل والأنقى والأجمل، إلى طقوس فولكلورية، تخضع للعادات والتقاليد وهرج ومرج الآخرين المحيطين بذلك الفرد، فإننا نكون أمام ممارسة مشوَّهة تسلب الدِّين أهم ما يميِّزه: روحانيته وصفاؤه. شهر رمضان قصد به أن يكون شهر ممارسة لشعائر روحية. فالشعيرة الأولى، شعيرة الصّيام عن الطعام والشراب، هي لإعلاء إرادة الانضباط فوق ضعف الانفلات الغريزي، وهي تذكير شعوري تضامني بجوع الآخرين من فقراء ومهمَّشي هذا العالم المفروض عليهم من قبل أنظمة وقوى غير عادلة وفاقدة لدفء التضامن الإنساني، وبالتالي تذكير بمسؤوليتنا الأخلاقية والنضالية في ألايوجد مثل هكذا جوع ولا هكذا جائعين. لكن تلك الشعيرة، شعيرة التطهُّر الروحي والنفسي، انقلبت إلى واحدة من الطقوس الفولكلورية: فالجوع أثناء النهار حلّت محله تخمة الليل من خلال إفطار مبالغ في أنواع مكوناته وكميَّاته لتتبعه بعد ذلك ولائم غنية أخرى أثناء مشاهدة التلفاز أو إبَّان زيارة الآخرين. أما التضامن - الروحي والعاطفي مع الفقراء والمعوزين فيعبّر عنه بإرسال ما يزيد من الطعام إلى بيوت الفقراء أو إقامة سرادق مذلٍّ لمنكَّسي الرؤوس من المعوزين. وعندما ينتهي رمضان يعود المعوزون إلى جوعهم وحرمانهم طيلة الشهور التالية وهم يستمعون، سنة بعد سنة، إلى ثرثرة الحكومات والمنظمات حول العمل على تخفيض أعدادهم وإنهاء العار الذي يلبسون. أما الصائمون من غير الفقراء فينسون التزاماتهم ومسؤولياتهم الدينية تجاه الفعل النضالي السياسي والمجتمعي المستمر المطلوب لحلّ قضية الفقر والفقراء، والتي لن تخفِّف من ويلاتها صدقة من هنا وصدقة من هناك، ولكنها لن تحلّها حلاً جذرياً يقتلعها من مجتمعات المسلمين. والشعيرة الثانية، شعيرة الصوم عن كل مايدنّس النفس الإنسانية من أنانية وكذب وكره وحقد وممارسة شتّى الرذائل الأخرى، أي محاولة عيش القيم والأخلاق الربانية، فإنها تستعصي علينا حتى أثناء شهر واحد في السنة. فالتاجر يحتكر ويرفع الأسعار ويعتبر تلك الرذيلة شطارة غير مفطرة. والطائفيون يؤججون الصراعات العبثية ومشاعر الكره وخطابات التنابز ولا يرون في ذلك تعارضاً مع وحدة الدين وتعاضد أتباعه، والجهاديون التكفيريون يرتكبون موبقات قطع الرؤوس وسبي النساء واختطاف الأطفال باسم قراءة متخلفة للقرآن والسنة والفقه، ولايرون في ذلك تعارضاً مع الصوم عن ارتكاب الخطايا والفواحش والفساد.. جميعهم يحلُّون طقوس الثقافة البدائية المشؤّهة مكان شعيرة الصوم التطهيري للسان والعقل والعواطف. وهكذا، فلا الصيام عن الأكل والشرب ولا الصوم عما يدنّس الروح، يمارسان كشعيرتين روحيتين وإنما يمارسان كأشكال من الطقوس الانتهازية التي تراكمت في العقل الجمعي العربي عبر القرون. شهر رمضان قصد به أيضاً أن يكون شهر عبادة تأملية، يهدأ أثناءها الجسد بغرائزه والذّهن يقلقه. والعبادة التأملية لاتتمُّ في أجواء السرعة والاستعجال وعدم التمعُّن. ولذلك فعندما تنقلب صلاة الجماعة، أثناء صلاة التراويح مثلاً، إلى تلاوة مستعجلة وخاطفة للنصوص القرآنية وإلى ركوع وسجود يماثل حركات الرياضة المدرسية، فإن العبادة لايمكن أن تكون تأملية من خلال خشوع النفس وسلام الداخل. حتى إذا ما انتهى من الصلاة تراكض القوم إلى سلسلة من زيارات لمجالس ترمز لسلطة وجاه ووجاهة أصحابها وتختلط فيها المجاملات بالانتهازية بالتهام مزيد من الأكل والشرب. وما إن ينتهي صخب الزيارات حتى يبدأ صخب مسلسلات التلفزيون التجارية المسطحة للثقافة، الكاذبة باسم التاريخ المحور والمختلطة مع هذيان ديني مشغول بالقشور والمظاهر التعبدية وبعيد عن أعماق الإنسان وأعماق الوجود. وهكذا تضيع شعيرة العبادة التأملية، حيث اقتراب الأدنى بالأعلى، في صخب الطقوس الفولكلورية. إبّان الأسابيع الماضية، استمع الناس عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، إلى عالم أزهري يطالب بمراجعة تاريخ وضع صحيح البخاري وما جاء فيه. واستمعوا أيضاً إلى باحث شيعي يطالب بمراجعة مصادر فقه الشيعة الأربعة التي كتبت أيام الدولة البويهية. يسأل الإنسان نفسه: هل أن مراجعة مصادر الفقه الإسلامي، بمدارسه المختلفة، وتنقيتها مما علق بها من الإضافات عبر القرون، ستكون خطوة نحو إرجاع وهج الشعائر الروحية لتحلّ محل هيمنة الطقوس الفولكلورية؟ لا يوجد جواب سهل.. إذ إن تاريخ الديانات يظهر أنها في الأصل جاءت لتصلح الثقافات التي شوَّهتها القرون وأصبحت عبئاً على الإنسان لكن تاريخ البشرية يظهر أيضاً أن مكر الثقافة ظل أقوى من نقاوة وبساطة الديانات. ألا يتوجه شهر رمضان المسلمين لينضَّم إلى ما فعله المسيحيون بذكرى ولادة السيد المسيح التي انقلبت هي الأخرى من مناسبة شعيرة تعبدية إلى طقوس فولكلورية تعجُّ بالتسوّق الذي لاينتهي والحفلات الصاخبة الممجّدة لنهم الغرائز؟ موضوع رمضان كله يحتاج إلى مراجعة موضوعية هادئة.. فهذا الشهر الذي من المفروض أن يثوِّر ثقافة الإنسان أصبح شهراً ينوِّمه.