كثيرة هي المصطلحات الإسلامية التي لا تتماثل مع غيرها، وتختلف في عمق دلالتها عمّا سواها في الديانات واللغات والثقافات المختلفة؛ كالنية والتوبة والبركة التي نعرفها بأثرها، ولم يسبق لنا أن اجتهدنا في وضع مقياس لها؛ لأنها في عرف الكثير منا عصيّة على ذلك ولا يمكن إخضاعها للمقاييس المتعارف عليها في دنيا الناس، فهي ذات بعد معنوي ونفسي أكثر منه مادي محسوس، وهي في نظري كذلك. أعرف كما تعرفون أناسًا كثراً يملكون الثروات، وعندهم الأبناء والزوجات، ولكن كلها أرقام لا بركة فيها، وفي المقابل هناك من يرزقه الله ولداً واحداً مثلا ويطرح الله في هذا الوحيد البركة والخير فيرفع اسم والديه وعائلته، ويخلد ذكرها في العالمين، ويغنيهم الله بسببه، ويخدم مجتمعه وأمته، ويكون مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر. ليس هذا في الولد فقط، بل هو في العمر «الوقت» والمال والصحة والعقل والزوج والسكن و... ومن هذا الباب الدعاء المأثور في مناسبة بلوغ هذا الشهر الكريم: «اللهم كما بلغتننا رمضان فبارك لنا فيه»، والدعاء للزّوجين: «بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير «، وأثر عن الحسن البصري - رحمه الله - قوله في المباركة بالمولود الجديد: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي المَوْهُوبِ، وَشَكَرْتَ الوَاهِبَ، وبَلَغَ أشُدَّهُ، وَرُزِقْتَ بِرَّهُ»، ويَرُدُّ عَلَيْهِ المُهَنَّأُ فَيَقُولُ: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، وبَارَكَ عَلَيْكَ، وجَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً، ورَزَقَكَ اللَّهُ مِثْلَهُ، وأجْزَلَ ثَوَابَكَ». ليس الحصول على البركة بالأمر الهيّن، بل لها أسبابها التي تُجلب بها، وهي كثيرة ومعروفة تحدث عنها علماء الأمة في كتبهم ومصنفاتهم ذات الصلة باستفاضة وتوسع. شخصياً ومن خلال مسح أوّلي أستطيع الجزم بأن من أقوى أسباب استجلاب البركة في كل ما سبق البرّ بالوالدين، خاصة الأم، وأعرف جمعا من الناجحين في حياتهم، المستقرين مع أسرهم، الذين منّ الله عليهم بصلاح أولادهم وتفوقهم في دراستهم، وبارك في أموالهم وأزواجهم، ويسّر لهم تشييد مساكن لهم، قدموا بين ذلك كله برهم بأمهاتهم وعطفهم عليهن حتى شهد بفعلهم من يعرفهم عن قرب، ولذلك إذا كنت تبحث عن البركة فعليك أن تكون حريصاً على تحري مواطن استجلابها، وتحقق وقوعها، واقرأ في سير من سبق ومن هم على قيد الحياة لتعرف كيف تنال هذه المنة التي تفوق في باب الأهمية الأرقام والأعداد؛ فزخارف الدنيا وملذاتها ومفاتنها وشهواتها إذا كانت منزوعة البركة صارت وبالاً عليك، وسبباً من أسباب شقائك، فالسعادة والهناء والعيشة الكريمة ليست بمقدار ما تملك أو بعدد زوجاتك وكثرة ولدك وسنوات عمرك، بل ببركة كل ذلك، والفرق بينهما كالفرق بين القيمة والثمن في العملات والتعاملات المالية التي يجيد فن الحديث عنها أهل المال ورجال الأعمال، ولكنهم قد يجهلون البركة محل الحديث. دمتم بخير وشهر رمضان «مبارك» على الجميع، وإلى لقاء والسلام.