يبدو أن الثلوج التي اكتست بها الحرب الباردة بدأت تذوب مع ارتفاع حرارة الصراعات السياسية بين روسيا والصين من جهة وبين أمريكا وحلفائها من الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، فما كادت نيران الأزمة السياسية في أوكرانيا أن تخبو، إلا وطفت على السطح مواجهات أخرى تمثلت في النزاع بين الولايات المتحدة والصين حول منطقة بحر الصين الجنوبي، على خلفية قيام الصين باستصلاح أرخبيل سبراتليز المتنازع عليه بهدف بناء منشآت عسكرية عليه، حيث أظهرت صور التقطتها أقمار صناعية أمريكية أن الصين تعمل بشكل مكثف على ردم جروف مرجانية، وتقوم بتحويلها إلى موانئ ومنشآت أخرى بينها مدرج هبوط بحري وقواعد عسكرية. وتهدف الصين من وراء ذلك إلى فرض قيود جوية وبحرية على السفن والطائرات التي تعبر هذه المنطقة بوصفها جزءاً من التراب الوطني الصيني. وخلال مؤتمر الأمن الآسيوي الرابع عشر، والذي انعقد في سنغافورة في 31 مايو/أيار 2015، وحضره مسؤولو دفاع كبار، من بينهم وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر، فقد حدثت مواجهة كلامية بين كارتر ومسؤول عسكري صيني، بخصوص عمليات البناء في ذلك الأرخبيل. وأكد الوزير الأمريكي عزم بلاده مواصلة إرسال سفن وطائرات حربية إلى المنطقة، ودعا إلى وقف فوري لعمليات البناء التي تقوم بها بكين في الأرخبيل. ورغم هذا الموقف الأمريكي المتشنج، فإن الصين لا يبدو أنها مكترثة بهذا الاعتراض الأمريكي، حتى وإن صدر على لسان وزير دفاعها بشكل غير رسميّ، لأنها تريد إنشاء حزام بحري حول أراضيها خوفاً من عمليات عسكرية بحرية أو جوية مفاجئة. وكانت الصين قد أقامت في نوفمبر عام 2013 منطقة مراقبة جوية فوق بحر الصين الشرقي، تغطي أجزاء واسعة من هذا البحر، وخصوصاً أرخبيل سنكاكو المتنازع عليه بينها وبين اليابان. والآن تعمل على تأمين البحر الجنوبي عبر فرض السيطرة الكاملة على أرخبيل سبراتليز الذي هو مثار تنازع بينها وبين كل من فيتنام والفلبين وبروناي وتايوان وماليزيا. ويقع بحر الصين الجنوبي غرب المحيط الهادي ويعتبر جزءاً منه، ويشمل المنطقة الممتدة من سنغافورة إلى مضيق تايوان، وتقع جزر سبراتليزفي هذا البحر، وهي عبارة عن أرخبيل يتكون من أكثر من مئة من الجزر الصغيرة المرجانية غير المأهولة التي تمتد على مساحة تناهز 410 آلاف كم مربع. وليس لهذه الجزر أي سكان أصليين. ويعد بحر الصين الجنوبي من أكثر بحار الأرض حركة بالبضائع والسفن، حيث يشهد تنافساً محموماً بين أمريكا والصين، وهو أحد بؤر التوتر الساخنة في جنوب شرق آسيا، ويعد نقطة اختبار رئيسية للمنافسة الصينية الأمريكية، حيث تتصاعد القوة العسكرية للصين، في الوقت الذي تحاول فيه الولايات المتحدة تحجيم تلك القوة، وجعلها تحت السيطرة. إذ تخشى الولايات المتحدة هذا التنين الصيني القادم الذي تغول اقتصادياً وعسكرياً، وبدأ يبسط سلطانه السياسي والاقتصادي في آسيا وإفريقيا مهدداً النفوذ الأمريكي والأوروبي. وقد ظلت السيطرة على المحيط الهادئ خاصةً على بحري الصين الشرقي والجنوبي تشكِّل طموحاً استراتيجياً للقِوى الكبرى منذ أواخر القرن التاسع عشر، وذلك بسبب اتصال هذا المحيط بأمريكا من الغرب وبأستراليا من الجنوب، ولأنه المعبر الوحيد إلى المحيط الهندي والشرق عبر مضيق ملقا الذي تمر من خلاله ناقلات النفط إلى الشرق الأقصى، وتعبر منه المنتجات الصناعية من الشرق الأقصى باتجاه الشرق الأدنى والغرب. ورغم أن الولايات المتحدة أظهرت التحدي للإرادة الصينية، لكنها لن تستطيع منع الصين من تحقيق هدفها في جعل بحر الصين الجنوبي تحت سيطرتها الكاملة، لأن الخيار المتاح أمام الإدارة الأمريكية هو خيار الدبلوماسية، أما التهديد باللجوء إلى القوة العسكرية فهو أمر لن تقدم عليه هذه الإدارة في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الأمريكي عجزاً هائلاً، وهذا الأمر سيقف حائلاً أمام تحويل التهديد الكلامي الأمريكي إلى واقع، خاصة أن الصين بدأت في بناء تحالفات قوية مع العديد من دول العالم ذات الثقل السياسي في محيطها الجغرافي كروسيا والصين والبرازيل وجنوب إفريقيا، إضافة إلى التفوق البشري الصيني. إن الصين ستمضي قدماً في فرض سيطرتها الكاملة على بحرها الشرقي والجنوبي، وقد تستمر الحرب الكلامية الأمريكية، وقد نرى سيلاً من التصريحات السياسية والدبلوماسية، لكنها لن تعدو غير ذلك، إذ إن التكلفة الأخرى مُهلكة ليس فقط لأن الطرفين يملكان ترسانات ضخمة من الأسلحة الفتاكة التي لا تبقى ولا تذر، ولكن لأن الطرفين عانا قبل ذلك ويلات حرب أحرقت الأخضر واليابس، كما أن حلفاء الطرفين لن يقفا مكتوفي الأيدي، خاصة أن هؤلاء الحلفاء سيعتبرون شركاء في الحرب إذا اسْتُحدمت القواعد العسكرية في شن الغارات، ما يؤدي إلى اتساع رقعة الحرب، وهذا ما يجعلنا نستبعد ارتكاب أي حماقات قد تجر العالم لدوامة العنف، فهل تمنع هذه التصريحات الصين من مواصلة خططها لتأمين محيطها البحري بشكل كامل؟ med_khalifaa@hotmail.com