الصوم شعيرة دينية لا تقتصر على دين دون آخر. وباستعراض تاريخي لأشكال الصوم وأنماطه نجد أن هناك أشكالاً متعددة للصيام في جميع الديانات، تختلف في التفاصيل لكنها تتفق في الهدف. فالصوم في الديانات السماوية يرمز إما إلى الانفكاك من الملذات الجسدية والعودة إلى الروحانيات طلباً للمغفرة وجلاء للأحزان وتطهيراً من الذنوب، أو بهدف التذكير بالمآسي والحداد عليها في رحلة للتأمل والتقوى. وأياً كان شكل الصوم وتفاصيله فهو يرمز لتفجير الطاقات الكامنة وتنقية الأرواح من الرذائل الإنسانية الطبيعية في محاولة لاستعادة التوازن ما بين الجسد والروح. إلا أن الملاحظ أن شهر الصوم لدينا يتميز بأنه يحدث انقلاباً جذرياً في نمط الحياة خلال هذا الشهر الكريم عن طريق طغيان النمط الاستهلاكي في حياتنا المستهلكة أصلاً. وجبتا رمضان اللتان من المفترض أن تكونا راحة للأجسام المثقلة، تمسيان أكثر ثقلاً ودسامة على الجسد من وجبات ما قبل رمضان الثلاث. أما مقدمات الانقلاب في حياتنا فتبدأ بتجهيز كل أشكال الاستهلاك المادي من مأكولات ومشروبات ووسائل ترفيه إعلامية، هذا إذا استثنينا آلاف الرسائل المقولبة والتهاني أو الكليشات الجاهزة التي بدأت تغزو كل منفذ للاتصال بين الأصدقاء والأهل والمعارف حتى صارت بديلاً عن التهنئة الصوتية والمرئية، وهي تكاد تكون في مجملها أو في أغلبها تهاني مفرغة من روح الخصوصية والحميمية التي تتوق الروح لسماعها فلا تجد لها أثراً. من المفيد أن نسائل أنفسنا ونحن في ساعة صفاء إن كان هذا الشهر الكريم يحدث حقاً لدينا انقلاباً جذرياً في نمط السلوك الإنساني في الأخلاقيات والتعامل واستبطان القيم بنفس مستوى ما يحدثه من انقلاب في نمط الحياة المادي؟ هنا أخشى ما أخشاه أن الإنسان لا يتغير جوهره في شهر الصيام عن بقية الأشهر حتى لو حاول تلبس حالة من التسامح. وأغلب الظن أن شياطين النفس البشرية تظل تعمل عملها وإن تقمص الفرد حالة التقى، ونواقص النفس البشرية تظل تطبع سلوكياتها العميقة وإن تلبست ثوب الكمال. ربما أسهم انشغالنا بالجوانب الكمية في العبادات في حرماننا من الجوانب التحويلية فيها، بمعنى أننا ننشغل كثيراً في حسابات تعبدية هي في جوهرها رمزية تهدف إلى نمو الفرد، لننتهي إلى تهميش الأثر السلوكي والتحويلي في تلك العبادات، فنقوم بإرضاء جزء من غرورنا بحساب زيادة الحسنات كماً دون أن نثري حقاً أرواحنا. آمل أن يمنحنا إيماننا بصيص أمل في أن يتجذر التقى الحقيقي، والذي يمنع الفرد من الظلم والفساد، وأن ينمو الخشوع الحقيقي، والذي يحول بين المرء والفحش من الكلام والسلوك، لتصبح هذه الصفات والقيم الإسلامية العظيمة سجايا تلازمنا في شهر رمضان وفي غير شهر رمضان.