عشقه للفن لم يأخذه بعيداً عن «الهمّ» العربي العام ! فهو يؤمن بحاجتنا إلى الفن والإعلام معاً لتطوير حياة أمتنا. لعل هذا هو ما جعل المخرج الأردني الكبير أحمد دعيبس واحداً من صانعي الفن الدرامي القلائل الذين يديرون كاميراتهم بوحي من عروبتهم، ويؤمنون بأن الدور الذي «تمثله» الدراما هو إشعال شمعة في ظلام النفق الذي يمر به العرب، وإشاعة التنوير في أمة يراها دعيبس «تسير عكس الاتجاه»، معرباً عن شدة حزنه من «أن العالم كله يسعى إلى الاتحاد، بينما العرب يمضون صوب الاختلاف والفرقة»! «الراي» حينما تحدثت مع المخرج دعيبس، عاشق الدراما التاريخية، كانت تهدف إلى استكشاف آفاقه الفنية، لكن السياسة - من دون قصد - صارت «البطل الرئيسي» على شاشة الحوار! ولأنه لا يهوى الوقوف على الحياد، يتابع الشأن العربي «بقلب حار»، ويقول ما يعتقد أنه حق غير مكترث بالعواقب! مخرج مسلسلي «بيت المقدس»، و«رأس غليص» وكثير غيرهما، والمنهمك حالياً في قيادة المسلسل التراثي «الليوان»، يرى «أن العودة إلى التراث ضرورية لمقاومة التطرف، واستعادة قيمنا الأصيلة»، معبراً عن استيائه من تداعيات «الربيع العربي» الذي هبت رياحه على المنطقة منذ سنوات! دعيبس اعتبر «أن التضييق على صناعة الدراما العربية (التي تكبلها المحاذير) جعل الجمهور العربي يتجه صوب الدراما المدبلجة، بحثاً عن قصة عميقة وقضية ملحّة»، مشيراً إلى «أن الإعلام الحكومي العربي يسمح بعرض كل الأمور في نشرات الأخبار، بينما يمنع تناولها في الدراما»! دعيبس باح لـ «الراي»، في ثنايا حديثه، بهواجسه العربية، متخذاً منها محوراً لرؤيته على صعيدَي دراما الفن ودراما الواقع على السواء... وفي ما يلي التفاصيل: ● تعمل الآن في مسلسل «الليوان» التراثي، هل تعتقد أن المشاهد العربي يلتفت الآن إلى الأعمال التراثية، في ظل ما يجري الآن على الساحة؟ ـ أعظم الأعمال العالمية عادت إلى التراث عندما كان هناك خطر يهدد الأمة، سواء كانت للموضوع علاقة بالدين أو التاريخ أو غيرهما. ● وهل ينطبق هذا على المشهد العربي الآن؟ - العالم العربي ذاهب إلى اتجاه لا يعرفه أحد، بل هو اتجاه مختلف عن القيم والعادات العربية، ومن ثم عندما نعود إلى الآباء والأجداد من أجل إيجاد الأصالة المفقودة يكون هذا أمراً جيداً، لأننا لم نَسِر في اتجاه الحضارة بالشكل الذي ينبغي أن نكون عليه، كما أننا لم نعد إلى قيمنا وحضارتنا بالمعنى الصحيح الذي يتمحور حول المودة والتكافل والتسامح. فالذهاب إلى التراث يصبح ضروريا من أجل أن يتعلم أولادنا الأمر الصحيح وسط اللغط الحاصل حالياً إنما هو أمر محمود، فهناك الكثير من الأمور تغيَّرت، بما في ذلك مفهوم «الجهاد» نفسه! ● وكيف ترى إذن أهمية العودة إلى التراث؟ - العودة إلى التراث تجعلنا نشاهد أنفسنا من جديد، ونتماسك، ونتمسك بقيمنا الباقية وثوابتنا، وعلينا أن نسير ونتعايش مع كل حضارات الشعوب، ولكن ينبغي أن نعلم أن التراث الجميل فيه وحدة وتعامل ولغة، لاسيما أن كلمة «أوكي» تكاد تكون مفردة من مفردات القاموس العربي، بل إنني أعتقد أن العودة إلى التراث في هذا التوقيت إنما هي رجوع إلى القيم، لأننا نحن العرب - مع الأسف - نهدم قديمنا ونخجل منه، بينما الغرب يرمم كل ما عنده من قديم، فنحن دائماً ننسى أن نربط التاريخ بالحضارة. ● أين الدراما العربية من الانحراف والانشقاق الموجودين في العالم العربي، خصوصا فيما يتعلق بالتطرف ودعاوى الجهاد وغيرها؟ ـ نحن لدينا مشكلة في الدراما العربية والإعلام العربي، وكذلك في القنوات العربية - وخصوصاً الحكومية - حيث يقدمون كل شيء للجمهور والمشاهدين من خلال نشرة الأخبار، في حين يمنعون كل شيء في الدراما، مع أن الدراما قد تحمل توجيهاً للناس أفضل من الأخبار، لأن الأخيرة في الكثير من الأوقات قد تكون مستفزة للجمهور، وللعلم هذا العام كانت لديّ نية لتقديم مسلسل «الحشاشون»، وهي أول فرقة في الإسلام تخصصت في إيذاء الآخرين، وكانت تفعل أموراً شائنة ضد خصومها، الآن وصلنا إلى مرحلة أنه كل اثنين معممين إذا اختلفا معاً في قضية ما يُكفر أحدهما الآخر، على رغم أن الكفر شيء عظيم، والمصيبة أن التكفير لا يكون على مستوى الدين فقط، بل على مستوى السياسة والتاريخ وغيرهما، مع أننا إذا عدنا إلى أيام الرسول الكريم لرأينا أن أحداً من المسلمين لم يكن يُكفر الآخر، كما هو حاصل الآن، ومع الأسف أصبحنا نختلف من دون أن نعرف: لماذا نحن مختلفون، الأمر الذي مزَّق العالم العربي، وجعل شعوبه تتفرق، في حين أن العالم كله يسعى الآن إلى أن يتحد أكثر. ● في رأيك، هل يمكن للدراما أن تسهم في توحيد العالم العربي؟ ـ العالم العربي في وادٍ والدراما العربية في وادٍ آخر، ففي الوقت الذي يُسمح فيه للدراما التركية والعالمية بأن تقول ما تشاء على الشاشات العربية، نُمنع نحن من الحديث عن همومنا، مع أننا أصحاب المشكلة، فكيف نسمح لغيرنا بأن يطرح قضايانا علينا، بينما نحن غير مسموح لنا بأن نقترب منها؟ فنحن نحتاج إلى إعلام متفهم ونظيف «غير مدعوس»، وعلينا أن نتساءل: لماذا عندما تكتب صحيفة «الواشنطن بوست» خبراً عن بلادنا ننقل هذا الخبر ونقول: لقد قالت صحيفة «الواشنطن بوست»، وإذا تناولت صحيفة محلية أو عربية الخبر نفسه ننعتها بأفظع النعوت، ويصبح الأمر فتنة. ● من خلال خبرتك في «الدراما التاريخية» ومتابعتك للمشهد العربي، في مصلحة مَن تصب الأحداث الجارية في هذا المشهد؟ ـ لمصلحة الصهيونية العالمية، لأن العالم كله يتوحد، بما في ذلك دول أميركا اللاتينية، حتى العداء بين كوبا والولايات المتحدة انتهى، وبدأت العلاقة بينهما تعود إلى سابق عهدها قبل المقاطعة التي استمرت عقوداً... أما نحن فنتمزق ونتفرق، وكأننا لا نعي الدرس، والمصيبة أننا غير قادرين على أن نستوعب أن هناك بندقية أقوى من بندقية الرصاص، وهي سلاح الإعلام، فالصحافي اليوم أهم من الدبابة والطائرة، ونحن حتى الآن لا نزال نتعامل مع الصحافي من زاوية «من هو؟»، و«ما انتماءاته؟»، وليس «ماذا يكتب؟»، و«ما رسالته؟». ● وفي ظل هذا الوضع، هل لديك أمل أن تنصلح أحوالنا؟ ـ أنا دائما أتساءل: إلى أين نحن العرب ذاهبون؟ ولكننا نستطيع أن نقول للناس من خلال الإعلام والدراما إن الحياة ستكون أفضل إذا تفاهمنا، لكننا نخطئ كثيراً إذا ظللنا متفقين على أن نستمر مختلفين، وربما أعداء، على الرغم من أننا أهل دم وعرق وتاريخ واحد، وبيننا كثير من الصفات المشتركة التي تجمعنا، ولكننا أكثر الناس اختلافاً وافتراقاً. ومنذ اندلاع «الربيع العربي» ونحن أمام بئر بترول مشتعلة تجتاح العالم العربي... لأن المفاهيم كانت خطأ. ● وكيف تنظر إلى صناعة الدراما العربية الآن؟ ـ بصراحة يسودها إجمالاً فكر مسطح، بسبب العزوف عن مناقشة قضايا حقيقية تلامس عقل ووجدان المواطن العربي، وتضيء له الجوانب المهمة في حياته... والدليل أن الدراما المترجمة (أو المدبلجة) تحظى بنسبة مشاهدة أعلى بكثير من الدراما العربية، لأن الأولى تتسم بالعمق في الطرح والجمال في التناول والأداء، ومن يتابع الدراما العربية يجد أنها مكبلة بالكثير من القيود والأغلال والمحاذير... فلم «تقترض» الكثير مما يجري في العالم العربي الآن، ولم تجسد القضايا التي تشغل الجماهير، بل هي تمضي في اتجاه آخر معاكس، وكأننا نعيش في مكان محايد، لا نكترث بما حولنا، بينما هناك مليونا مشرد في العالم العربي، وعلينا الاعتراف بأن الانقسامات الفكرية والدينية - حتى في المذهب الواحد - أصبحت تتبادل التكفير، وفي الوقت الذي ترتبط فيه الأمم الأخرى بمحور واحد تلتف حوله وتتوحد على جبهته، نجد في بلادنا ثلاثة مساجد تقع في حي واحد، كل منها يكفر الآخر... وكأن العرب يصرون على المضي عكس التاريخ!!