الشاعر الظاهرة الذي نذر نفسه للشعر فعاش الشعر الذي تمثل في فيض من الإيقاع يسكن ذاته فيبثه إلى المتلقين وما يتعلق به من وسائل الإبداع والإعلام، هو الذي قال عن نفسه وقت تكريمه بجائزة الدولة التقديرية في الأدب"أنا كومة الفحم السوداء.. تلبس الثياب البيضاء، وتقول: «أشعاراً: حمراء وصفراء وخضراء". الشاعر طاهر زمخشري تعددت مواهبه المتعلقة بالشعر، فهو محب للفن وأهله، وللصحافة، والإذاعة، والتلفزيون، شارك مذيعاً في بدايات البث إذاعي من إذاعة (مكة المكرمة) الإذاعة السعودية، ومعداً للبرامح، وأصدر مجلة (الروضة) للأطفال، فلقب (بابا طاهر)، ولكن الشعر هو هاجسه الأول الذي عمل من أجله الكثير فألف الدواوين بالتتابع وكانت له مكانته الشعرية بين الشعراء العرب في الداخل والخارج، فهو شاعر بحق، وَوُصفَ بأنه خُلق للشعر والشعر فقط، فشعره يفيض رقة تنبئ عن مشاعر إنسان شفاف يختزن في قلبه المحبة للناس وللفن الذي اختار أن يكون طريقه. بل هو الذي اختاره ليكون معبراً عنه في أبيات ومقطوعات راقصات مفعمة بالروحانيات والوجدانيات، حتى الأغنيات الخفيفة الظل مثلما هي روحه الحساسة المرحة في طفولة كبيرة تعي ماذا تفعل من أجل بث الوجدان، فكتب لبعض المغنين الذين اشتهروا بما قدم لهم كلمات معبرة قريبة من الناس على كافة مستوياتهم المعرفية والذوقية، فقد كانت أغنية (أسرع من البوينج /يالابس الطرحة) غنتها المطربة اللبنانية (هيام يونس)، كما قدم أشعاره لغيرها من الفنانات العربيات كعايدة أبو خريص، وهناء الصافي، فهو كان مع الفنانين السعودين رفيقاً للجميع دون اسثناء، فمحمد عبده تغنى له ب (أسمر حليوة) و(خاصمت عيني من سنين) وغيرها، والفنان طلال مداح (سلام لله ياهاجرنا)، وهناك الكثير، فهو أشبه مايكون بالشاعر المصري الكبير كامل الشناوي، فكلاهما محبّ للشعر والفن. النفحات التي عنونت بها هذا المقال ستكون محملة بالمشاعر الروحانية ذات السمة التأملية وهي كثيرة تضمنتها أعماله الكاملة التي صدرت في مجلدين بعناونين :(مجموعة النيل) و(المجموعة الخضراء) تضم كافة نتاجاته الشعرية التي صدرت طيلة حياته بعناوين عديدة، فشهر رمضان الكريم المليء بمحفزات المشاعر الروحانية، ومحاسبة النفس في توغل وتأمل في الحياة التي عاشها الشاعر تكون بداية بمراجعة النفس، و(النفس المؤمنة) عنوان النفحة الأولى: إيه يانفس إلى الله أنيبي ثم توبي وإذا وسوس شيطان بإثم لاتجيبي واذكري الله ففي صوتك تكفير ذنوبي وثقي أن وراء الغيب علاّم الغيوبي *** سبحي لله يانفس وصلّي واشكريه وإذا عاثت بك البلوى وهاجت فاذكريه إنه الشيطان يغويك لتشقي فاحذريه فإذا غالك إثم جامح فاستغفريه *** عونك اللهم قد ضج بجنبي ضميري وفؤادي خافق يرجف ملتاث الشعور وأنا اللاهث في سعي ولا أدري مصيري فأنر بالهدي آفاقي وبارك في مسيري ثم يتوجه مبتهلاً إلى الله، وطالباً العفو والمغفرة، والتوفيق في الدنيا والآخرة بمشاعر المؤمن الصادق والمحب للناس كما يحب لنفسه: رباهُ كفارتي عن كل معصيةٍ أني أتيتُ وملءُ النفس إيمانُ أتيتُ أطرق بابًا كل مجترمٍ أتاه يرجع عنه وهو جذلانُ قد استضاف كريماً لا يَمُنُّ بما يعطي وفي مَنّه للعبد رضوانُ فاغفرْ وسامحْ وتُب واصفحْ ففي ك بدي الآثامُ تصرخُ والإحساسُ يقظانُ رباهُ هذي يدي تمتد ضارعةً ومن نداك لها صفحٌ وغفرانُ وفي الحنايا براكين معربدةٌ ومن لظاها على الخدين طوفانُ فإن أخذتَ مسيئاً بالذي اقترفْ منه اليمينُ فقد أغواه شيطانُ وإن رحمتَ ففضلٌ واسعٌ كرماً وأنت بالفضل حَنّان ومَنّانُ وقد تولّى تلحين هذا الابتهال الفنان المكّي العريق سعيد أبو خشبة، وردده وسجله للإذاعة بصوته، وكان يطلب منه في المناسبات لما يحمله من المعاني السامية والروح الإيمانية، ثم يأتي دور أم القرى (مكة المكرمة) التي وُلد فيها الشاعر وعاش طفولته وشبابه وكهولته وشيخوخته محباً لها، وقد كانت له قصيدة وُفِّقَ الفنان طارق عبدالحكيم في تلحينها والتغني بها ولا زالت ترددها وسائل الإعلام المسموعة والمرئية في المناسبات الدينية، والوطنية، وهي تحمل صورة الحنين إلى الموطن، والمنزل الأول، فمابالك إذا كان هذا المنزل(مكة المكرمة) ببيت الله الحرام، كان الشاعر خارج المملكة حيث كان في مصر إثر مشادة بينه وبين بعض العاملين في الإذاعة السعودية التي كانت تبث برامجها عبر الأثير من (جبل هندي) بمكة( تَكْرَنْتْ وسَافَرْتْ) -حسب قوله بلسانه-، وكانت مناسبة الحج، فما أن سمع التكبير والتهليل عبر الإذاعات إلاَّ وعاوده الحنين إلى مشاهد المكان في ذلك الوقت وقت الحج وكيف تكون الصورة عند ابن مكة الذي تعوّد أن يكون في الموسم مشاركاً ومشاهداً وهو بعيد فكانت قصيدته (إلى المروتين): أهيم بروحي على الرابيه * وعند المطاف وفي المروتين وأهفو إلى ذكر غاليه * لدى البيت والخيف والأخشبين فيهدر دمعي بآماقيه * ويجري لظاه على الوجنتين ويصرخ شوقي بأعماقيه * فأرسل من مقلتي دمعتين ***** أهيم وعبر المدى معبد * يعلق في بابه النيرين فإن طاف في جوفه مسهد * وألقى على سجفه نظرتين تراءى له شفق مجهد * يواري سنا الفجر في بردتين وليس له بالشجا مولد * لمغترب غائر المقلتين ***** أهيم وقلبي دقاته * يطير اشتياقاً إلى المسجدين وصدري يضج بآهاته * فيسري صداه على الضفتين على النيل يقضي سويعاته * يناغي الوجوم بسمع وعين وخضر الروابي لأناته * تردد من شجوه زفرتين ***** أهيم وحولي كؤوس المنى تقطر في شفتي رشفتين فأحسب أني احتسبت الهنا * لأسكب من عذبه غنوتين إذا بي أليف الجوى والضنى * أصاول في غربتي شقوتين شقاء التياعي بخضر الربى * وشقوة سهم رماني ببين ***** أهيم وفي خاطري التائه * رؤى بلد مشرق الجانبين يطوف خيالي بأنحائه * ليقطع فيه ولو خطوتين أمرغ خدي ببطحائه * وألمس منه الثرى باليدين وألقي الرحال بأفيائه * وأطبع في أرضه قبلتين ***** أهيم وللطير في غصنه * نواح يزغرد في المسمعين فيشدو الفؤاد على لحنه * ورجع الصدى يملأ الخافقين فتجري البوادر من مزنه * وتبقي على طرفه عبرتين تعيد النشيد إلى أذنه * حنيناً وشوقاً إلى المروتين تعمدت أن أثبت النصوص كاملة لكون الترابط بين الأبيات كما البنيان الذي يسند ويشد بعضه بعضاً، ولكي تكون الصورة كاملة في هذا الشهر الكريم أفضل الشهور وأحبّها لدى القلوب المؤمنة.