قبل يوم... صفعها على وجهها وسط دهشة الجميع، مشيرا بيده الأخرى بالتهديد والوعيد للبقية. سحبها بقوة من قمة رأسها خارجا بها من المقهى الأخضر إلى الشارع وهو يصفعها بعشرات الكلمات النابية لها ولوالديها اللذين لم يحسنا تربيتها، كما يقول. وهي، تحاول أن تستر بكفيها ما تبقى من بياض وجهها المحمر، إلا أن قبضته القوية بفعل هرمونات الفحولة لم تشفع لها أي وسيلة رجاء لكي يكف عن ذلك. تجمع البعض حولهما، محاولين تهدئة الموقف وسط غطرسته التي واصلت السباب والوعيد لمن يحاول تخليصها منه. وصلا لسيارته الواقفة خارج المجمع التجاري الشهير امعانا منه لأن يكون مشهد تأديبها على مرأى العامة الذين اختلطت مشاعرهم بين المتعاطف معها أو معه، فبات المشهد مباحا أمام صور تلتقط لهما بعد سقوط أي حقوق للخصوصية، وانطلقت بهما السيارة بسرعة جنونية. *** يصفع باب طوارئ المستشفى، يصرخ بالجميع طالبا المساعدة، يسأل عن دكتور المناوبة، يتجاوز دور المنتظرين بجنون، لا يلتفت لعشرات أصوات الاحتجاج والسباب، يدفع بها وهي جالسة على الكرسي المتحرك إلى الداخل، يضع راحته كل قليل على رأسها المتمايل ليعدله قليلا، ويزيح خصلات شعرها الساقطة على وجهها الذي بدأ يتحول للبياض شيئا فشئيا. يصرخ لدرجة البكاء، يطلب الغوث من أي كائن، يتجمع حوله بعض الممرضات ومن في المكان، يحاولون تهدئته، يحملونها على عجل على سرير متحرك إلى غرفة الانعاش، وهو لا يعي كل ما يدور حوله، سواها هي. يطلب منه موظف الاستقبال بطاقة الاثبات، بصعوبة فهم ما يريده منه، تذكر طفله الصغير الذي تركه في سيارته الواقفة بعرج عند مدخل الطوارئ... فانطلق كالمجنون. *** قبل سنوات... في حفلة الزواج في أحد الفنادق الضخمة، كان هو دون جوان في هيئته الظاهرة، يبادلها أجمل عبارات الغزل، يعدها بالحب مدى الحياة، وفقط الحب، وان يكون بيتهما عشا ورديا يتحدث عنه العشاق والعواذل معا. وهي، تضحك بغنج كامل وتوزع غمزاتها بين الحاضرات، لعلها تشاهد غيرة هنا وهناك، كيف لا، وها هي تتزوج من اختارته هي، بنفسها، وشكلته بيديها، ليكون الفارس المطيع الذي تريد، بعدما رفضت كل المتقدمين إليها طمعا بثروة والدها. تقاسم المكان ومن فيه نظراتهم عليهما، والهمس امتدت خيوطه الملونة بين الجميع، ليقوما معا وسط الموسيقى الصاخبة، وتزاحم الرقص في منتصف القاعة، ويتجها كتمثالي رخام نحو كيكة عملاقة حملت صورتيهما، فيقطعاها معا، بسكين واحدة في منتصفها، فتصبح كل صورة لوحدها، وسط عشرات نغمات التصوير من الأجهزة الذكية. *** مرتبكا يجلس بين والده ووالدها والملاج في بيت أهلها، يرتب غترته كل دقيقة والزمن بات مرتبكا معه، لا يرفع عينيه عن يديه المرتجفتين، إلا ليسرق نظرة سريعة منها وهي الجالسة هناك صامتة بين نسوة المكان، فتبادله بنظرة خجولة وابتسامة صغيرة. فهو شريك حياتها الآتي وأب أطفالهما المنتظرين والذي انتظرته طويلا ليستجمع ذاته ويستعد بكل قواه الروحية والمادية لهذه اللحظة والمرحلة، بعدما حارب من أجلها الجميع برغم مرضها الوراثي. يعلن الملاج زواجهما فيقوم هو ليطبع قبلة على رأس والده ووالدها، فتطلق أمه وأمها يباب العمر الذي انتظرنه طويلا. فيخطو خطواته القلقة نحوها، مستشعرا ثقلا كبيرا على كاهله، فتقف هي بكل توتر جميل، فيطبع قبلة على رأسها، ويهمس لها وسط البخور ورائحة دهن العود: «مبروك حياتي، الله يخليك لي». تقدم لهما والدته كأسي عصير، فيختار كأسا، ليشربا منها هو وهي معا. *** الآن... بينما تراقب هي جهازها الذكي وتتصفح بعض صور قديمة، وجدت بعضها وأخرى مُسحت بمرور الوقت، يتقدم منها محقق المخفر ليسألها ثانية عن رأيها في شكوى إحدى صديقتها بعد حادثة الضرب والسب في المجمع قبل يوم. ترفع رأسها المثقل بالحيرة قليلا، ولسانها محبوس بين ضلوع صدرها المكلوم لا تستطيع النطق، تفكر بكل شيء إلا أمرا واحدا لا يمكن أن تعيش معه، طلاقها منه. تتحمل نزيف كرامتها وتصبر على وجبات الضرب المستمرة على أن تنزف وحيدة في هذا العالم بعدما تخلى عنها أهلها عندما اكتشفوا حقيقة أمره وماضيه المشبوه. - ليس صحيحا ما ذُكر في الشكوى، وهو زوجي وأنا أحبه، وهو لم ولن يؤذيني أبدا، وصديقتي إنسانة عزباء، شديدة الغيرة مني ومنه! يقدم له المحضر لتوقع على أقوالها، فيسبقها قلبها المتألم، فتوقع بكف مريرة. ويغلق المحضر في وقته، فتركب سيارته حيث ينتظرها، ويمسح على رأسها، ويلتقط معها صورة سيلفي ضاحكة! *** يتقدم منه والدها، يعانقه طويلا، يتبادلا البكاء، يرتدي الممر حلة الحزن القاتمة يتواصل مجيء الرؤوس المنكسرة، المثقلة، والعيون لا تسع ماءها الذي بدا كشلال غير منقطع. بينما هو غارق في حالته تلك، ينتبه ويبحث بين الوجوه عن وجه صغير كان معه. يجده جالسا لوحده، يعبث بهاتفها الذي تركته عنده قبل دخولها المستشفى. يجلس بقربه، يشاهد صورا ملتقطة قبل اليوم، حيث كانوا يجلسون على طاولة المقهى الأخضر في المجمع التجاري الشهير يحتفلون بمرور ثلاث سنوات على ميلاده وأربع سنوات على زواجهما. يقترب منه الموظف، يعطيه ورقة بيضاء، يرتجف الخط مع توقيعه، وتسقط دمعة على الحبر، مكونة بقعة داكنة. يقرأ... سبب الوفاة «سكتة قلبية مفاجئة». * كاتب وناقد كويتي @bo_salem72