رغم توقف المسلسل الكوميدي طاش ما طاش عن العرض بعد مواسم عديدة حافلة بالنجاح، إلا أن الكثير من المشاهدين في العالم العربي لا يزالون يتذكرونه جيدا، لقد حقق المسلسل الكثير من النجاح رغم الانتقادات التي وجهت إليه، فقد جسد هذا المسلسل المحلي النقد لبعض الأوضاع الاجتماعية بطريقة ساخرة، غير أنه لقي حظه أيضا من التحريم والتجريم إلى الدرجة التي نادت بوجوب عدم عرضه من الأساس، إن الفن الناجح هو الذي يقوم دوما بالتعبير عن قضايا المجتمع ومشكلاته، فهو يستطيع النفاذ لا لعقول متابعيه فقط بل لقلوبهم أيضا، وبذلك يعد الفن سلطة معنوية قادرة على تغيير المجتمع وتشكيل الثقافة وصناعة مفاهيم ذهنية متنوعة لدى المشاهدين، والكثير من الدول «حتى المتقدمة» تستخدم الفن كأداة لترسيخ مفاهيم وأفكار بعينها. أذكر خلال زيارتي لبعض الدول وخاصة المغرب العربي أن هذا المسلسل كان معروفا لديهم، ويمثل نسبة مشاهدة لا يستهان بها، وقد جذب انتباه المتابعين له بسبب عرضه لجوانب من ثقافة المجتمع السعودي، حتى أن مكتبة الكونجرس الأمريكي طلبت بعض أجزائه للاحتفاظ بها في مكتبتها، ويكفينا الاستدلال على نجاح المسلسل بما أعلنه كوميديان العالم العربي الفنان عادل إمام بأنه على استعداد للمجىء للمملكة والمشاركة فيه، وهو أمر يوضح لنا بجلاء مصير الحركة الفنية الفكرية بالمملكة في حال تقديم يد العون لها ودفعها نحو المزيد من النجاح. لقد واجه مسلسل طاش ما طاش العديد من العقبات التي أسهمت في توقفه عن العرض، وفي اعتقادي أن أهمها يدور حول نقد بعض المتشددين له، وعدم تجدد وملاحقة الأحداث الاجتماعية بالشكل المطلوب في بعض حلقاته، إن أي عمل فني يبدأ بالفكرة ثم تتم صياغة السيناريو وبعدها يتم توفير التمويل الكافي لإنتاجه، والذي يعتمد عليه تحديد مواقع التصوير ومستلزمات الإنتاج، ليبدأ بعدها العمل الفني في الظهـور تحت إشراف المخرج، وأكاد أجزم كغيري أن أحد أسباب عدم استمرار هذا المسلسل لا يعود لأبطاله بل يعود لخلل ما في سلسلة صناعة المسلسل سابقة الذكر، وربما كمنت المشكلة في صياغة فكرة بعض الحلقات وعدم وضوحها للمشاهد، الأمر الذي سبب في كثير من الأحيان نقدا تحمل تبعاته في المقام الأخير أبطال المسلسل. إن هذا العمل الفني ما كان يجب أن يترك للظروف الطبيعية كما حدث، فيتوقف عن العرض وبالتالي تكون النتيجة الطبيعية هى افتقادنا له كمشاهدين، وقد فقدت بلادنا أحد مواردها الفنية باختفاء نخبة احتاجت للكثير من الرعاية والاهتمام، وكان من الممكن أن تساهم في تغيير الوعي الجماهيري وتوصيل رسائل محددة للجمهور، وبالتالي تتوازى رسالة الفن مع رسالة الدولة لتطوير المجتمع وترسيخ أهدافها الاستراتيجية في عقول المواطنين، وبالتالي يسهل على المسؤولين القضاء على الكثير من القضايا التي تقض مضاجعهم ويتسبب أغلبها في حدوث خلل اجتماعي، وأهمها التطرف الفكري والمغالاة والتشدد، وكما نعرف جميعا فإن منطقتنا العربية تمر بأحداث جسيمة ومتلاحقة، تتطلب منا خوض معركة تثقيفية مع قوى الظلام لتصحيح الوعي الجماهيري لا تقل عن المعارك الحربية في أهميتها. لقد مر المسلسل على مصفاة التحريم التي يعتنقها البعض، وهي بالتأكيد نظرة ضيقة الأفق أحادية التفكير، فمن المؤكد أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يقبل أي مسلم أن يسخر هذا المسلسل من ثوابت الدين والمجتمع، ومن المؤكد أيضا أن بطلي المسلسل ما فكرا في ذلك ولو للحظة واحدة، ولكن أحيانا قد يؤدي عدم وضوح الفكرة - وربما سوء الإخراج - للخروج بهذا الانطباع، ولقد تحدثت سابقا في مقالي «كيف يقاس الإنجاز الأمني» عن ضرورة لجوء الدولة لموارد جديدة لمحاربة الإرهاب الفكري بخلاف الحلول الأمنية، وقد تحدثت عن الإعلام كسلطة رابعة، والفن الهادف هو أحد روافده الرئيسية، وما أطالب به هو مزيد من التنسيق بين أصحاب هذا العمل الفني الهادف، سواء كانوا منتجين أو كتابا أو ممثلين أو طاقم إخراج، ليترسخ في وعيهم أن استمرار هذا المسلسل يمثل ضرورة ثقافية وطنية، وليس مجرد لغو لتسلية الجمهور وتمضية وقته بلا هدف واضح، فهو صناعة محلية يمكنها أن تحمل في طياتها الكثير من المعاني والأفكار التي تستطيـع تغيير المجتمع وبعمق خلال المستقبل القريب وعلى مدار عدة أجيال..