أنشئت أول جامعة أهلية في مصر عام 1908، أي أنها من أقدم وأعرق الجامعات في الشرق، وبعد ما يزيد على مئة عام من انطلاق العملية التعليمية بها، تشهد تلك الجامعة تراجعاً كبيراً في التصنيفات، التي ترصد بالترتيب أفضل جامعات العالم، وكلمة السر في هذا التراجع هي رهن الجامعة بالسلطة السياسية، وفقدان الاستقلال وحرية البحث العلمي، وبالتالي لا مجال لطرح سؤال التنوير هنا. الاستقلال هو عنوان معركة خاضها أحمد لطفي السيد أستاذ الجيل والمدير الأول للجامعة، يوم 9 مارس/ آذار عام 1932، وهو الحدث الذي اختارته مجموعة من الأكاديميين المصريين، في العام 2003 لتدشين ما أطلقوا عليه حركة 9 مارس وتمثلت مطالبها في استقلال الجامعات عبر نقاط أهمها عدم دخول الشرطة الحرم الجامعي، وعدم عزل أعضاء هيئة التدريس بقرارات تعسفية، وإلغاء تعيين عمداء الكليات، ورؤساء الجامعات. تلك هي المشكلة، فقد كتب على هذه الأمة أن تخوض المعارك التي خاضتها سلفاً، مع افتقاد الضمير الوطني، الذي تمثله قامة شامخة مثل لطفي السيد، صاحب مقولة: الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية فقد بادر بتقديم استقالته حين تم إقصاء طه حسين عن الجامعة، بسبب أزمة كتابه في الشعر الجاهلي ورهن لطفي السيد عودته إلى موقعه مديراً للجامعة، بتعديل قانون إنشاء الجامعة، بحيث لا يكون لوزارة المعارف الحق في نقل أستاذ، إلا بعد موافقة مجلس الجامعة، وقدم لطفي السيد استقالته مرة ثانية في العام 1937 حين اقتحمت قوات من الشرطة الحرم الجامعي. لم تخل الجامعة من معارك التنوير، ومنها على سبيل المثال معركة رسالة محمد أحمد خلف الله عن القصص الفني في القرآن ومثلما تراجع طه حسين عن بعض آرائه في كتابه في الشعر الجاهلي لم تناقش الجامعة رسالة خلف الله وهي المشكلة التي تكررت بحذافيرها مع نصر حامد أبو زيد حين تقدم بأبحاثه للترقية، وهكذا تدور الجامعة في دائرة مفرغة، لأنها تعيد إنتاج مشكلاتها الخاصة بالاستقلال وحرية البحث العلمي. وقد شهدت بدايات حكم السادات ونهاياته في سبتمبر/ أيلول 1981 أسوأ حملات التنكيل بأساتذة الجامعة، ففي التجريدة الأولى في بدايات السبعينات كان الأساتذة ينقلون من الجامعة إلى شركات بيع المصنوعات وباتا وفي الثانية كان الاعتقال مصير من يعلو صوته، إضافة إلى أن تعيين عمداء ورؤساء الجامعات أسهم بصورة كبيرة في تجريف الكفاءات، وجرت عملية توريث ممنهجة لأبناء الأساتذة، بتعيينهم معيدين في الجامعات، كل هذا في الوقت الذي صعدت فيه قيم لا تشجع على البحث العلمي، وأصبح الإنسان سلعة، تقاس قوته بما يمتلك من مال ونفوذ. أصبحت رسائل الماجستير والدكتوراه مجرد أوراق توضع على الرف بصرف النظر عن قيمتها، إن وجدت هناك قيمة، هذا بخلاف اكتشاف أن بعض هذه الرسائل مجرد سرقات علمية، وبذلك غابت الجامعات عن سباق التنوير، لأنها انفصلت عن المجتمع، وباتت مهمتها تخريج طوابير، تنضم إلى أجيال العاطلين عن العمل، وسط فوضى المدارس الأجنبية والخاصة، التي كافح لطفي السيد لمناهضة إنشائها. حتى على مستوى الكتابات الأدبية بات من النادر أن تجد مبدعا كبيرا في صفوف الأكاديميين، لأن الجامعات أفرزت نوعاً من النقد يقال له النقد الأكاديمي وهو عبارة عن لغة ميتة، وسقوط في فخ النظريات المستوردة، إضافة إلى أن بعض هذه الجامعات تخرج أجيالاً فقدت الإيمان بالمستقبل، وسعيد الحظ منها سيجد أن ممارسته العملية لا علاقة لها بما درسه في الجامعة، هنا أسترشد بما كتبه الشاعر كريم عبدالسلام قائلاً: إذا حدث وتوافرت تحت يديك قائمة برسائل الماجستير والدكتوراه في مجال النقد الأدبي، بجامعة من الجامعات الكبرى في مصر، خلال عام من الأعوام العشرة الماضية، ستشعر بحالة من الحزن، وربما تصاب بالاكتئاب، وستكتشف لماذا وصلت الثقافة المصرية إلى ما وصلت إليه من تراجع وأفول؟ فلا يوجد عقل يبني القدرات الثقافية المصرية، لا يوجد عقل قادر على استشراف المستقبل، أو يراهن على قيمة الإبداع والابتكار، ولا يوجد مناخ من الفكر أصلًا، السائد هو تكريس لقضايا معادة ومكررة ألف مرة، وموضوعات مدرسية عقيمة، الغرض منها تدبيج مزيد من الأبحاث المتواضعة، التي لا تفيد أحداً لمجرد أنها تناسب قدرات الأستاذ المشرف، الذي بدوره لم ينتج عملًا له قيمة، خلال مراحل تدرجه في الجامعة، وهكذا أجيال تسلّم أجيالًا حتى تحول النقد الأدبي إلى نوع من الإنتاج عديم القيمة، والملازم التي يتداولها طلاب يبحثون عن النجاح من أقصر طريق!. عزمي عبد الوهاب