تعبّر قطع الفنان عمر الزعبي في معرضه «راس براس» المقام في دارة الفنون في عمّان، عن فضاء تجريبي وجمالي ينطوي على ثيمات مضمَرة تعاين أحلام الإنسان وهواجسه وعلاقته بمحيطه الاجتماعي وبالوجود كلاً. يشاهد الزائر قطعاً تركيبية مصممة لاعتلاء الرأس أشبه بالقبعات، موضوعة فوق «ستاندات» خاصة، يقابل كلَّ قطعة منها صورةٌ فوتوغرافية معلّقة على الجدار لشخصٍ يرتدي هذه القبعة. صُنعت القطع التي أثّثت مفردات المعرض، من مواد بسيطة، كأسلاك الحديد والنايلون والقماش والقطع المعدنية والخرَز. أما ملامح الذين يرتدونها كما تُظهرها الصور الفوتوغرافية، فتكشف عن حالات من الاعتراض والاغتراب والسخرية والخوف والقلق والتذكّر والتأمل، وهي حالات يُعتقَد دائماً أن مصدرها هو ما يعتمل في رأس الإنسان من أفكار. معرض «راس براس» المفاهيمي، يجمع خليطاً من الاشتغالات الفنية المختلفة في فضاء واحد، فثمة أعمال تركيبية متجسّدة في القطع التي يمكن ارتداؤها على الرأس، ومجسّم من الفلّين الأبيض يحمل عنوانَ المعرض «رأس برأس»، وأعمال فوتوغرافية. وإمعاناً في صبغ المعرض بالواقعية، ثمة عرض «فيديو» يصوّر لحظاتِ إنتاجِ الأعمال المعروضة ولقاءات مع أصحاب الصور الفوتوغرافية الذين طُلب منهم ارتداء القطع وسرد حكاياتهم الشخصية وما مرّوا به من أحداث ذاتية، لتفريغ ما يدور في الرأس من أفكار تبدو أحياناً شذرات مشتتة ومرتبكة لا يربط بينها شيء سوى اجتماعها في مكان واحد هو الرأس! يَطرح المعرض سؤالاً ينطوي على سخرية مرّة؛ ماذا لو نبتَ رأسٌ آخر فوق رأس الإنسان وأصبح بمثابة خزّان يُفرّغ فيه الرأس ما يؤرّقه من أفكار وهواجس ومشاعر؟ ما الشكل المحتمَل لهذا الجزء الجديد النابت؟! وهل سيكون مشابهاً للرأس الأصيل عند الجميع، أم سيكون مختلفاً، بما يعكس اختلاف الفكر الإنساني نفسه؟ المعرض يبدو أكثر مْيَلاً إلى أن هذا الجزء سيكون متعدِّد الأشكال، لكل شخص وفق ما يناسبه، ففي حين يختار بعضهم أن يكون رأسه على شكل ربطة شَعر (شكْلة) حمراء اللون، يفضّل آخرون شكل الأسطوانة المسيَّجة بالأسلاك والموصولة بالفم. وهناك من ينتقي شكلاً يذكّر بالطائرات الورقية التي يصنعها الأطفال، أو بالعمامة المطرَّزة، أو يستهويه شكلُ الكيس أو الحقيبة. وجميعها أشكال تمزج بين الغرائبية والأسطورية من جهة، وبين الواقع من جهة أخرى، وتدلّ على فكرة واحدة مفادها أن تعدّد الأشخاص وتعدّد القطع التي يرتدونها يؤشران في النهاية إلى شخص واحد متعدد؛ هو الإنسان بجوهر فكره وعقله ورؤاه وتساؤلاته. إنّ طباعة الصور الفوتوغرافية اعتماداً على طبقة برتقالية اللون مع نقاء ملامح الوجه والتركيز على الشكل الذي يطوّق الرأس وإظهار الجزء العلوي عارياً، هي أمور تؤكد وحدة الحال بين هذه الشخصيات جميعاً، وفق منطوق المعرض. وهنا يصبح السرد الفردي بكل ما يتضمّنه من أحداث وحكايات وقصص، سرداً جماعياً لحالة الإنسان بعامة. يتيح المعرض للمشاهد فرصة أن يرى ويؤوّل، وفقاً لخبرته ومعرفته وتوجهاته الفكرية، وهو ما يؤكده الفنان الزعبي بقوله إن المعرض هدفه طرح التساؤلات بصرياً، أما الإجابات فلا بد أن تتباين وفقاً لما يراه كل زائر. ومن جملة هذه التساؤلات، وفق الزعبي: «ماذا لو كان بإمكاننا سرد القصص الشخصية كامتداد لجسم الإنسان؟ ماذا لو كسرَ التكوينُ الأصلي بنيته لينبت طرفاً خارجياً؟ ماذا لو يتوَّج هذا الطرف الرأس ليصبح أقرب إلى عقل الشخص ويستقي منه أفكاراً ومشاعرَ ومعتقدات؟». يأتي هذا المعرض ضمن برنامج أسّسته دارة الفنون لدعم الفنانين الشباب عبر إقامة معارض تمثل نتاجات لورش ومشاريع فنية، غالباً ما يكون طابعها تجريبياً حداثياً، يمنح للفنانين الشباب فرصة التعبير عن أفكارهم ورؤاهم.