عندما أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، على أن إسعاد الناس مهمة لا تحتمل التأجيل، فقد كشف بجلاء عن الغاية الكبرى والهدف السامي الذي يجب أن تسعى إلى تحقيقه كافة الدوائر والمؤسسات الحكومية، وما يجب أن يحرص على تحقيقه كل فرد في فرق العمل الحكومي، ولا شك أن هذه المقولة الجامعة تلخص فلسفة العمل الحكومي، وتصل بدقة إلى النقطة الرئيسة، كما أنها خلاصة كافة النظريات التي تعلقت بالتنمية والتطور، وهي أن ما يبذل من جهد لا قيمة حقيقية له إلا عندما يستشعره الناس في حركتهم اليومية. وعندما أطلق سموه مبادرة فريدة من نوعها لقياس سعادة أفراد الجمهور ورضاهم عن الخدمات الحكومية المقدمة لهم، لم يشأ أن يكون ذلك الرصد بعد مرور أعوام أو عند الانتهاء من خطط خمسية أو عشرية، كما هو معتاد في السياسات الحكومية من حولنا. ولأن الفكر الحكومي غير المعتاد، والذي دأبت قيادته على أن تفكر خارج الصندوق، كما لم تعتد أن تختار بين بدائل مطروحة بل تطرح بنفسها البديل الجديد، أرادت القيادة الحريصة على أن يتم الرصد بشكل يومي عبر توزيع أجهزة إلكترونية في جميع الدوائر الحكومية تكون مرتبطة بشبكة مركزية تقوم برصد هذا المؤشر، وإرسال تقارير بشكل يومي لمتخذي القرار لرصد المناطق الجغرافية والحكومية الأكثر سعادة ورضا عن الخدمات الحكومية، بهدف تطوير الخدمات وتحسينها، ومدى سعادة الجمهور عن الخدمات المقدمة في زمن تسارعت فيه الخطى ولم يعد يحتمل أن يتم قياس العمل الحكومي غير التقليدي بأساليب تقليدية. إن إسعاد الشعب يكرس لديه قيمة الانتماء للوطن والولاء لقيادته. فالبرغم من أنها حالة نفسية ترتبط بالعاطفة، إلا أن أبعادها تنعكس على حركته اليومية، فعندما يشعر المواطن أن قيادته تسعى لتحقيق ما فيه الخير له فإنه يفخر بانتمائه إلى تلك الأرض ويضحى بالغالي والنفيس من أجلها، كيف لا وهو لم يجنِ من ثمارها غير العزة والكرامة. والشاهد أن أخطر الأمراض التي أصابت بعض الشعوب من حولنا هي الغربة في الوطن، عندما لا يكون لما يراه أو يسمعه أثر في حياته اليومية، وهو ما ينعكس على علاقة الناس بعضهم ببعض، فضلاً عن علاقاتهم مع غيرهم، وتاريخ الإمارات وواقعها يبرهن على أن حالة الرضى التي يستشعرها المواطن عن نفسه ومجتمعه انعكست على اتساع نفسه لقبول الآخر أيا كانت ثقافته وعقيدته، فضرب المثل في السلام المجتمعي، وتكامل الحضارات بدلاً من صراعها، وتلك طاقة نفسية لا تتأتى للعديد من الشعوب التي تدعي التحضر والتمدن، في الوقت الذي تتعصب فيه إلى حد العداء والعنف لعنصرها أو عرقها أو عقيدتها أو لغتها وتنفي وجود الآخر. كما أن السعادة ذاتها تزود الفرد بالطاقة الإيجابية، التي تجعل ما بداخله جميلاً فيرى الوجود من حوله جميلاً، وهي التي تجعله يضيء دائما شمعة بدلاً من أن يلعن الظلام، تلك السعادة تمد المواطن بقدرة على الفعل ورغبة في البناء، كما أنها تستفز لديه طاقات لم يكن لها أن تكون عند انعدام ثقته بذاته وعزوفه عما حوله. على الجانب الآخر، فإن ما يجعل سياسة الحكومة الإماراتية متفردة هو أنها عندما تعلن عن إسعاد الشعب فإنها لا تتوقف عند القول، ولكنه ينتقل إلى مربع التحقق برؤية واضحة وبعمل شاق لا يلمسه المواطن فحسب ولكن المواطن والمقيم، فشجرة الخير في الإمارات تمتد أغصانها لينعم بظلها المواطن والمقيم على أرضها، وهو ما جعل منها من أكثر بقاع الأرض رغبة في الإقامة فيها بين الشباب العرب، الذين هم أمل الأمة ومستقبلها، الذي يرونه يتحقق على أرض الإمارات. وفي تقديري، فإن إطلاق مصطلح إسعاد الناس لم يأت هكذا، غير أنه كان نتاجاً لمنظومة عمل كبيرة عبر سنوات سعت إلى التميز الذي أصبح عملاً يومياً في كافة الدوائر والمؤسسات الحكومية لتحقيق الرضى المجتمعي عن الأداء، ثم نتجاوز مرحلة التميز إلى الابتكار، لينتقل معها الرضى إلى مربع السعادة، ليتضح أن تحقيق السعادة للمواطن لم يكن عبر الدفقات الشعورية والحماسة الوطنية ولكن عبر رؤية جلية واضحة، ومنظومة عمل متناغم، وطاقة بذل لا تعرف الكلل أو الملل. وأحدث حبة أضيفت إلى عقد السعادة هو برنامج سعادة للرعاية الصحية في دبي، والذي ينعم فيه ما يقرب من 130 ألفاً من مواطنيها بغطاء صحي متميز، وهو ما يشجّع الكثير من المرضى على اختيار الخدمات المحلية للرعاية الصحية بدلاً من السفر للعلاج في الخارج، وبالتالي تقليل التكاليف المالية التي تتحملها الجهات الحكومية. وقد كشفت دراسة استقصائية أجراها معهد غالوب أن اثنين من كل خمسة إماراتيين يفضلون العلاج في الخارج، ومصدر السعادة من تطبيق هذا البرنامج لا يأتي من تطبيق أفضل الممارسات المتبعة عالميا فحسب، ولكن حينما يتلقى المريض علاجه بين أفراد عائلته وأهل بيته وعلى أرض وطنه، لا شك يعد من أسباب التعجيل بشفائه ويزيد من ثقته بقدرات المرافق الصحية والبنية التحتية لها، كما أنه ينعكس على تطوير الأداء المهني ذاته والارتقاء بالمنظومة الصحية عبر المنافسة في التجويد والتميز، وأثر ذلك على مستقبل السياحة العلاجية في الإمارات. وما يستحق التوقف كثيرا أن من سيحدد حجم الإنجاز ومدى تحقيقه ليسوا مديري الدوائر أو مقدمي الخدمات، لكن المعنيين بالخدمة أنفسهم وهم الناس، فهم المعنيون بها والمستفيدون منها والضابطون لحركتها ومداها، ولأن سموه من أكد غير مرة في ومضات من فكره أنه عندما تطور الحكومات نفسها وخدماتها لتسهيل حياة الناس فإنها تحقق لهم الراحة والسعادة، وعندما تخلق الفرص لأبناء الوطن فإنها تحقق لهم السعادة، وعندما تقدم الحكومات أفضل أنظمة التعليم لأبناء الوطن فإنها تزودهم بأهم أسلحة بناء مستقبلهم ليكونوا سعداء، وعندما تقدم الحكومات رعاية صحية متميزة فلا شيء أكثر إسعاداً للمريض من الشفاء والراحة، فصار سموه صانعاً للسعادة وجعل منها الغاية لسياسة الحكومة.