كمال الرياحي يمثل خورخي (أو جورج) أمادو أحد أهم الأصوات التي عرفها المشهد الروائي العالمي، والتي كانت ناطقة بهواجس المجتمع البرازيلي، مما جعل من رحيله خسارة كبرى لهذا المجتمع الذي غاب عنه حكاؤه الأعظم وناقل عوالمه. كان أمادو من الخطورة بمكان تجعل منه أكثر من روائي، حتى إن هناك عبارة شعبية شهيرة في البرازيل تقول إذا أردت أن يكرهك كل سكان القارة ادخل في صراع مع جورج أمادو واشتمه، فسيكتب رواية تكون أنت إحدى شخصياتها السيئة. ويعتبر الروائي البرازيلي أهم كاتب أخطأته نوبل وخسرته، حتى إن بعض الناشرين لأعماله يضعون خطأ عبارة متحصل على نوبل لأنه لا أحد يصدق أنه لم ينلها. وقد عرفه قراء الرواية بأعمال كثيرة منها طفل من حقول الكاكاو وبلاد الكرنفال وزوربا البرازيلي والقديس جورجي شفيع إيلويس وغرام الجندي والبحّارة المُسنّون ودونا فلور وزوجاها ودكان المعجزات وتيريزا باتيستا المتعبة من الحرب وبحر ميت. انتشار عالمي وقد ترجمت أعماله التي ناهزت الأربعين رواية إلى أكثر من خمسين لغة، لكن تبقى روايته رجل مات مرتين إحدى أشهر رواياته بالعالم العربي، وهي رواية أعاد ترجمتها مؤخرا المترجم والباحث التونسي المقيم في البرتغال عبد الجليل العربي وصدرت عن دار ميسكلياني بعنوان ميتتان لرجل واحد. تسرد الرواية حكاية كينكاس هدير الماء، الرجل الستيني الذي سقط ميتا في إحدى حانات باهيا، وكان يدعى جواكيم سواريس كونيا، وهو رب عائلة طيب وموظف مثالي في دائرة الضرائب قبل أن يهجر عالمه القطني ليلتحق بالشوارع الخلفية لباهيا ويُنصَّب زعيما على مشرديها وصعاليكها. يتطاير خبر موته إلى أهله فيهرعون لاستعادته ودفنه حسب ما يليق بـبريستيج العائلة وطبقتها. ويلتحق به رفاقه من الشطار ويخطفون الجثة لينجو كينكاس من جديد من العالم البارد ومن ميتة باردة ليختاروا له دفنا يليق بمتمرد لُقب بـهدير الماء. في تلك الليلة تدور أحداث الرواية في مغامرة شيقة لجثة مهربة من دفن رسمي أشبه ما يكون بقتلة ثانية. نوفيلا برازيلية عرف تاريخ السرد العالمي روايات نهرية ضخمة شكلت جزءا هاما من أسسه قارَبَ من خلالها الروائيون -على اختلاف هوياتهم وانتماءاتهم- هموم الإنسان وأسئلته الاجتماعية والوجودية والسياسية مثل الحرب والسلام لتولستوي ودون كيشوت لسيرفانتس وبحثا عن الزمن الضائع لبروست والأبله لدوستوفسكي. في مقابل هذه الأعمال الضخمة، تظهر بين الحين والآخر روايات قصيرة انتزعت خلودها وتأبدت في أذهان القراء بينما لم يتعد عدد صفحاتها المائة صفحة مثل المسخ لكافكا، والجميلات النائمات لكواباتا، وذكريات غانياتي الحزينات لماركيز، والشيخ والبحر لهمنغواي، وذكريات طفلة نيتيوشكا لدوستوفسكي، بل إن بعضها لم يتعد الخمسين صفحة. وتظهر هذه الأعمال لتفند طوال الوقت ما يردده البعض من أن الرواية الجيدة هي الرواية الضخمة. وقد عرف هذا الصنف من الروايات القصيرة عند النقاد المتخصصين بـالنوفيلا، وهي عبارة إيطالية وقف عندها طويلا الباحث الفلسطيني محمد عبيد الله في مؤلفه العمدة بنية الرواية القصيرة، وأبان عن شعريتها وأدبيتها العالية بعد أن رجع إلى أصولها منذ الكتاب المؤسس للسرد الإيطالي الديكامرون لبوكاتشو إلى اليوم. وضمن هذا المنجز الاستثنائي يمكننا أن نضع رواية البرازيلي خورخي أمادو ميتتان لرجل واحد. نجح صاحب جائزة سينو ديل دوكا وجائزة بابلو نيرودا وجائزة لويس دي كامويس في توظيف هذا النوع القائم على التكثيف في ملامسة واقع اجتماعي متشعب، وطرح فيه بحنكة فنية عالية مشاكل المجتمع البرازيلي الحديث وقضايا الوجود الإنساني. اللجوء إلى الهامش اختار كينكاس في هذه الرواية أن يهجر عالمه الأرستقراطي الانضباطي لينضم إلى عالم الانفلات مع المهمشين في شوارع باهيا بعد أن مل حياة الزيف التي يعيشها في عالمه الأسري الأخلاقوي الخاضع للنواميس والبريستيجات الفارغة والمادية المقيتة. هناك اختار كينكاس ميتته بين أصحابه من الفقراء والمهمشين واللصوص الصغار الطيبين. وهناك فارق مشهرا ضحكته في وجه العالم. واستطاع خورخي أمادو بأسلوبه التهكمي الذي عرف به من السخرية من أكثر الأمور جدية وسوداوية، وهي الموت، وجعله يتخفف من طقوسيته ومن ثقله الوجودي على الكائن، وحتى كموضوع للتحليل والتدبر، ليرمي به في دنيا الحكي التهكمي فينكل به من خلال عدم المبالاة به وتأجيله بأحداث سرقة الجثة وتأجيل دفنها وإحراج المؤسسة التي تسهر على نمطيتها. وأخرجت الرواية الموت، كما يقول المترجم، من احتكار الفلسفة والدين وبسّطت طرحه وقللت من هالته لدرجة التهكم، فكانت الإضافة في أسلوب المعالجة وجمالياتها الجديدة، فصار الموت مساحة للفرح والسخرية وصار اختيارا. كسر الاحتكار كما أصبح في إمكان المرء اختيار موته، وكينكاس هدير الماء اختار بكل حرية أن يسخر من الموت المؤسساتي ليموت في الزحام في ركن منسي صاخب، واختار له أصحابه أن يدفن في الماء مثلما اشتهى في قصيدته التي كان يرددها سأدفن كما أشتهي/ في الساعة التي أشتهي/ يمكنكم أن تحفظوا تابوتكم إذن/ لميتة جديدة، وميت جديد/ أما أنا فلن أترك أحدا يحبسني/ في قبر أرضي ذليل. وتظل رواية ميتتان لرجل واحد -التي نقلت إلى السينما في البرازيل واقتبست للسينما العربية تحت عنوان جنة الشياطين من إخراج أسامة فوزي وبطولة محمود حميدة ولبلبة- علامة سردية عالمية وقبلة لبقية الفنون لتحويلها أو الاستلهام منها. ويقول خوزيه سارماغو عن رفيقه خورخي أمادو في مدونته منذ سنوات أراد خورخي أمادو أن يكون صوت البرازيل ومعناها وبهجتها، وكان يعرف كيف يكون كذلك. لم يحدث أن كان كاتب مرآة لشعبه بأكمله وصورة وجيهة له كما كان أمادو، وإذا كانت العبارة الشهيرة تقول إن العملاق يعرف من أصبعه، فإن هذه النوفيلا الصغيرة ميتتان لرجل واحد في ترجمتها الجديدة المتميزة تذكّر بعملاق سردي وحكاء عظيم كان أكبر من جائزة نوبل، ولذلك لم يحصل عليها فلاحقته بأغلفة كتبه تتضرع وتطلب الغفران.