عطفاً على الجدل القانوني الذي أثير في الآونة الأخيرة في إطار العلاقة بين قيادات القطاع النفطي من جهة وبين وزير النفط من جهة أخرى والتي تضمنت كيفية التعامل مع الأحكام الصادرة من محكمة التمييز في الطعون أرقام 872 /2014 إداري/2، 876 /2014 إداري/2، 878 /2014 إداري/2، والتي ألغت الأحكام الصادرة من محكمة الاستئناف وقضت في نهاية تلك الخصومة بتمييز تلك الأحكام والقضاء مجددا برفض الدعوى. ومن خلال الاطلاع على هذه الأحكام نجد أنها تضمنت تأكيد انصراف مبادئ سبق للمحكمة إقرارها وقررت استطالتها إلى العاملين في القطاع النفطي، فقد تضمنت تلك الأحكام أمورا قانونية أصبحت محسومة قضائيا، وأكدت عليها في الأسباب المرتبطة بالمنطوق، بل تضمنت في أسبابها المرتبطة بالمنطوق تأكيدا على ما نص عليه القانون من سلطة لمجلس إدارة مؤسسة البترول في إدارة المؤسسة، وقد وردت المادة (14) من قانون إنشاء المؤسسة في الأسباب المرتبطة بمنطوق هذه الأحكام. ومن خلال الاطلاع على هذه الأحكام تأكدت لنا سلامة التأسيس القانوني لما أوردناه في دراستنا السابقة المنشورة في شأن عدم الحاجة إلى إصدار قرار جديد في شأن عودة الأعضاء المنتدبين السابقين إلى أماكنهم قبل صدور حكم محكمة أول درجة مشمولا بالنفاذ المعجل والذي ألغى قرار إنهاء خدمة أسلافهم ونظرا لاستمرار هذا النزاع القانوني بين وزير النفط وقيادات القطاع النفطي فقد نفذ الوزير ما صرح به للإعلام من لجوئه إلى إدارة الفتوى والتشريع إذ طلب وزير النفط من إدارة الفتوى والتشريع الرأي القانوني في شأن صحة التعميم الذي أصدره العضو المنتدب لمؤسسة البترول بتاريخ 19 /5 /2015 في ما يتضمنه من تنفيذ حكم محكمة التمييز الصادر في اليوم نفسه وذلك قبل ورود الحكم وإعلانها بها والاطلاع عليه وعلى أسبابه ومنطوقه. لذلك سنحصر تلك الدراسة في بحث تلك المسائل من الوجهة القانونية على النحو التالي: أولا- في شأن بيان سلطة وزير النفط في مخاطبة إدارة الفتوى والتشريع: ليست سرا الخلافات الواقعة بين قيادي مؤسسة البترول وبين وزير النفط وآخرها الخلاف على التعميم الصادر من الرئيس التنفيذي للمؤسسة، والذي دار فيه سجال نقلت وسائل الإعلام فحواه، فالوزير يؤكد أن هذا الأمر من سلطته والرئيس التنفيذي يرى أنه قرار كاشف وأن الحكم الصادر من محكمة التمييز أعاد الحال لما هو عليه وأن المراكز القانونية للأعضاء المنتدبين العائدين والواردة أسماؤهم في التعميم لهم حق مكتسب بعدما زال السبب عبر حكم محكمة التمييز. طبقا لما سبق صرح الوزير بأنه سيخاطب إدارة الفتوى والتشريع في شأن هذه المسألة وهو ما تم بعد أخذ ورد بينه وبين الرئيس التنفيذي، لذلك السؤال الأول الذي يطرح على طاولة البحث هو هل من سلطة الوزير مخاطبة إدارة الفتوى والتشريع مباشرة في شأن خلاف في وجهات النظر بينه وبين جهة أخرى في مسألة قانونية؟ الإجابة تكمن في قانون إنشاء إدارة الفتوى والتشريع، إذ نصت المادة (4) من المرسوم بقانون رقم 12 /1960 بشأن تنظيم إدارة الفتوى والتشريع على أن «تبدي إدارة الفتوى والتشريع الرأي، بناء على طلب المجلس الأعلى في ما يقوم من خلاف في وجهات النظر بين مختلف الدوائر وترفع للمجلس الأعلى رأيها في ذلك مشفوعا بالأسباب التي تستند إليها». مفاد ما ورد في المادة الرابعة ولازمه أن من يخاطب إدارة الفتوى والتشريع هو المجلس الأعلى وهو الذي يسمى الآن مجلس الوزراء باعتبار أننا أمام خلاف في وجهات النظر بين مؤسسة البترول ووزارة النفط، ومن ثم ليس لوزير النفط مخاطبة الفتوى والتشريع بشكل مباشر، بل كان عليه أن يعرض الأمر على مجلس الوزراء فإذا رأى مجلس الوزراء الحاجة لاستطلاع رأي إدارة الفتوى والتشريع في هذا الشأن طلب مجلس الوزراء من الفتوى والتشريع بيان رأيها والذي تلتزم إدارة الفتوى والتشريع بدورها بعد ذلك برفع رأيها إلى مجلس الوزراء وليس بإجابة الوزير إلى طلبه. ولهذا الأمر سوابق بل وسوابق قضائية، إذ سبق لرئيس مجلس مفوضي هيئة أسواق المال بصفته أن رفع دعواه على سمو رئيس مجلس الوزراء بصفته طالبا إلغاء قرار إنهاء عضوية ثلاثة من المفوضين السابقين باعتبار أن هذا القرار من اختصاصه وليس من اختصاص مجلس الوزراء، وقد قضت الدائرة الإدارية لمحكمة استئناف أسواق المال بحكم بات انطباق المادة (4) من قانون الفتوى والتشريع رقم 12 /1960. (الطعن بالاستئناف أرقام 10، 11، 12 /2012 إداري أسواق مال، جلسة 13 /2 /2012) وتأتي حكمة المشرع في تحديد المسلك القانوني لطلب الرأي القانوني من إدارة الفتوى والتشريع عند اختلاف وجهات النظر بين الجهات لأسباب عديدة، إذ إن طلب مجلس الوزراء من الفتوى والتشريع إبداء الرأي القانوني في مسألة خلافية معناها أن الرأي سيخضع تقييمه لمجلس الوزراء وهو ما يجعل إدارة الفتوى حريصة في دراسة كافة جوانب طلب الرأي بدقة لأن مجلس الوزراء لن يقيم ما انتهى إليه الرأي فقط بل سيقيم أيضا من أبدى الرأي وهو ما سيرفع أي حرج عن إدارة الفتوى في إبداء الرأي القانوني السليم لا سيما وأن أحد أطراف الرأي وزير في الحكومة. لذلك يتضح من خلال المادة (4) من القانون رقم 4 /1960 أن وزير النفط لم يلج الطريق القانوني السليم لاستطلاع رأي إدارة الفتوى والتشريع، الأمر الذي يليه وجوب قيام إدارة الفتوى والتشريع بإعادة الطلب إلى وزير النفط والطلب منه سلوك الطريق القانوني الذي نصت عليه المادة (4) آنفة الذكر. ثانيا- في شأن الرد على عدم الاطلاع على الحكم الصادر من محكمة التمييز وعدم إعلان الحكم وعدم تسلم الحكم والصيغة التنفيذية بما يجعله مبررا لتراخي تنفيذه: تناولت بعض الصحف تصريحا لوزير النفط أنه طلب من الرئيس التنفيذي لمؤسسة البترول وقف العمل بالتعميم لحين تسلم الحكم بالصيغة التنفيذية وحيثياته وبعد أخذ رأي الفتوى والتشريع في كيفية تنفيذه. وحيث إن هذا الأمر مردود عليه قانونا بالآتي: 1- من المعلوم أن الجلسات علنية والأحكام تصدر علانية. 2- من المعلوم أحكام محكمة التمييز في أسبابها المرتبطة بالمنطوق يكون ردها في حال الرفض إما أن سبب الطعن مردود أو غير مقبول، وفي حال القبول يكون ردها أن سبب الطعن (سديد)، وفي الحالة الماثلة التي أجابت المحكمة لطعن الطاعنين (ومنهم الرئيس التنفيذي) قررت أن سبب الطعن (سديد) مؤدى ذلك أن الأسباب المرتبطة بالمنطوق معروفة سلفا للطاعنين ومنهم الوزير والرئيس التنفيذي فعن أي جهل بأسباب الحكم نتحدث حتى يطلب الوزير من الرئيس التنفيذي التريث؟ 3- من المعلوم أنه بعد دقائق من صدور الحكم من الممكن إصدار شهادة من الاستعلام القضائي بمنطوق الحكم. 4- طبقا للمادة 115 من قانون المرفعات فإنه يجوز للخصوم الاطلاع على مسودة الحكم لحين إتمام النسخة الأصلية وهو أمر جائز منذ يوم صدور الحكم. كل ذلك ممكن الحديث عنه والمجادلة بشأنه مردود عليه لو كان الحكم قد استحدث أمرا، لكن في الحقيقة فإن الحكم الصادر من محكمة التمييز لم يقض بطلب إلزام بل قضى بإلغاء حكم محكمة الاستئناف وحكم أول درجة والقضاء مجددا برفض الدعوى، إذا فهو عبارة عن إعادة للحال لما كان عليه قبل رفع الدعوى وفق المراكز القانونية المكتسبة. وتدليلا على ما سبق وتأكيدا لما سلف بيانه قضت الدائرة الإدارية لمحكمة التمييز، «بأنه من المقرر في قضاء هذه المحكمة أنه يترتب على تمييز الحكم اعتباره كأن لم يكن فيزول وتزول معه جميع الآثار المترتبة عليه ويعود الخصوم إلى مراكزهم السابقة على صدوره كما يترتب عليه إلغاء الأحكام اللاحقة التي كان الحكم المميز أساسا لها ويقع هذا الإلغاء بقوة القانون». (الطعن بالتمييز رقم 266 /2007 إداري، جلسة 28 /4 /2009) أما بالنسبة لطلب الوزير بالتريث لحين إعلان الحكم وإعلان الصيغة التنفيذية فهو مردود عليه أن هذا الطلب ليس له محل من الإعراب لأننا سنتساءل وبوضوح من الذي سيتولى إعلان الصيغة التنفيذية ومن الذي سيتم إعلانه بالصيغة التنفيذية، هل سيقوم وزير النفط والرئيس التنفيذي بإعلان كل من وزير النفط والرئيس التنفيذي بالصيغة التنفيذية؟، للإجابة عن هذا التساؤل نترك الأمر لفطنة القارئ ليرى بنفسه جدوى هذا المبرر. لذلك نرى أن التعميم الصادر في شأن إعادة الحال لما هو عليه قبل رفع الدعوى جاء ليؤكد سلامة القرارات السابقة المطعون عليها ليطبق مبدأ دوام سير المرافق بانتظام وإطراد وعدم خلق فراغ إداري. ثالثا- في شأن تنظيم العلاقة داخل مؤسسة البترول طبقا لما ورد في الحكم الصادر من محكمة التمييز: أرسى الحكم الصادر من محكمة التمييز قواعد تنظيم العلاقة بين مؤسسة البترول والعاملين فيها، إذ اعتبر أن عقد الوظيفة العامة في مؤسسة البترول يجعل الموظف في مركز تعاقدي لائحي وبالتالي فالأصل في تحديد المراكز القانونية هو لأحكام العقد الإداري في حين أنه تسري القواعد القانونية اللائحية في ما لا يُرد نص في هذه العقود مؤكدا في الوقت ذاته أنه لا يجوز الرجوع لأحكام قانون الخدمة المدنية إلا في حال خلو النص في اللوائح الإدارية حتى لا يهدر القانون ما تضمنه القانون الخاص من أحكام. وقد بين الحكم أنه أيا كان السبيل الذي اختارته الجهة الإدارية في إنهاء العلاقة العقدية وأسبابها فإن ما تصدره الجهة الإدارية وبصفتها متعاقدة تندرج تحت ولاية القضاء الكامل حتى لو انصب النزاع على طلب المتعاقد إلغاء القرار الإداري الذي اتخذته الإدارة قبله باعتبار أن ما تصدره الإدارة من قرارات في هذا الشأن يعد تنفيذا للعقد، بما مؤداه أن المنازعات التي تتولد عن القرارات والإجراءات هي منازعات حقوقية وتكون محلا للطعن عليها عن طريق ولاية القضاء الكامل دون ولاية الإلغاء باعتبارها منازعة عقدية. لذلك يتضح أن العلاقة بين المؤسسة والعاملين علاقة عقدية ينظمها في الأصل أحكام هذا العقد كمرتبة أولى ومن ثم تنظمها اللوائح الإدارية التي اعتمدت من المجلس الأعلى للبترول عند خلو العقد من أحكام، وأخيرا يتم اللجوء إلى قانون الخدمة المدنية فيما فات ما سلف من أحكام، وأيا كان الأمر فإن القرار الذي يصدر لا يعد من القرارات التي تستوفي شروطها لتصبح محلا لقضاء الإلغاء فهي لا تنسلخ عن طبيعتها المتمثلة في كونها أداة من أدوات تنفيذ العقد. باختصار، هذا ما ذهبت إليه أحكام محكمة التمييز في شأن تلك المسألة، لكن ما يهمني في المقام الاول هو أن الحكم الصادر من محكمة التمييز أشار إلى المادة (14) من قانون إنشاء المؤسسة والتي أعطت لمجلس إدارة المؤسسة جميع السلطات اللازمة لإدارة المؤسسة ولم يشر من قريب أو بعيد أو تصريحا أو تلميحا إلى المادة (12) من المرسوم رقم 198 /1998 والتي ما زال وزير النفط حتى هذه اللحظة يستند عليها وحدها معتقدا أنها بتراتبية أعلى من القانون.