هذا المقال بقلم إكرام لمعي، أستاذ مقارنة الأديان وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN . إلا ان البعض الآخر أيد هذا التوجه وأثبت نجاحه بأن أمريكا استطاعت فعلاً أن تفرض قيمها على العالم وكذلك السلام بمفهومها وحقوق الإنسان وعدالتها، بل إن الشباب فى كل العالم يلبسون الجينز والتى شيرت والكوتش ويرقصون ويغنون على الموسيقى الأمريكية... إلخ، بما دعوه "أمركة العالم". وبغض النظر عن هاتين الرؤيتين أريد هنا أن أتحدث عن هل كان هناك عند الآباء المؤسسين خلفية دينية لتحقيق إمبراطورية أمريكية عالمية تتشابه مع الامبراطورية الرومانية؟ عندما أضطهد المصلحون الدينيون فى أوروبا فى القرون الوسطى، قاموا بالهجرة إلى أمريكا الأرض الجديدة وقد تمثلت هذه الهجرة بخروج شعب الله المختار (العبرانيون) من مصر وعبورهم البحر الأحمر إلى أرض الموعد وعاصمتها أورشليم، فقد هرب الشعب القديم من ظلم فرعون كما هربوا هم من (جيمس الأول ملك إنجلترا). ولقد اعتبر هؤلاء أن أمريكا إستثناء دينى جغرافى تاريخى وتلك الإستثنائية طبعت السياسة الأمريكية بسمات المثالية والنفعية والتجريبية، وهذا التحليل قدمه والتر ماكدوجال فى كتابه أرض الميعاد والدولة الصليبية "أمريكا فى مواجهة العالم منذ 1776" ترجمة رضا هلال، فأرض الميعاد هى العهد القديم والصليبية هى العهد الجديد والمقصود هنا صليب المسيح رمز التضحية وخلاص البشرية وليس الحروب الصليبية. لذلك كانت أمريكا تعيش العهد القديم حتى نهاية القرن التاسع عشر عندما تم تحرير أمريكا من الإنجليز والعبيد وإستكمال الإستيطان عام 1898، من هنا بدأوا العهد الجديد فى القرن العشرين من منطلق أن أمريكا لها رسالة لخلاص العالم بتعظيم حقوق الإنسان والمرأة والحرية والعدالة والتطور الإجتماعى والثقافى، فالعهد القديم يمثل الحرية فى الداخل والعهد الجديد يمثل الحرية للعالم من خلال النموذج الأمريكى. وهنا حدث صراع بين الإنعزالية (العهد القديم) بناء الداخل والواقعية (الإنتشار) العهد الجديد بين القومية والعالمية. وهكذا يرى العالم أمريكا شريرة أحيانا وطيبة فى أحيان أخرى فالعالم العربى الإسلامى رأى أمريكا الطيبة عندما ضرب كلينتون الصرب الأرثوذكس لأجل مسلمى البوسنة، ورأوها العرب طيبة عندما حرر بوش الاب الكويت عام 1991 من الغزو الصدامى، لكنهم يرونها شريرة عندما استخدمت الثورات العربية فى إشاعة الفوضى الخلاقة وعملها على تكوين شرق أوسط جديد تكون فيه إسرائيل رقم واحد يتلوها إيران ثم تركيا متجاهلة جميع الدول العربية وفاعلة فى تقسيم الوطن العربى إلى دويلات مستخدمة داعش وغيرها من المنظمات المتطرفة، كل ذلك مع موقفها التاريخى من إسرائيل ضد الحقوق الفلسطينية العربية وقد وصف المؤرخ آرثر شليزنجر التاريخ الأمريكى بأنه دورات بين الواقعية والمسيحيانية ووصفها كيسنجر بصراع بين المثالية والعنف. يحكم أمريكا الآن أربعة مبادئ يعتبرونها مبادئ العهد الجديد : الأول: أن الله اختار الأمريكيين ليقوموا بتحضير وإرتقاء البشرية ونقل التقدم إلى العالم المتأخر والمتخلف وهذه رسالتهم التي كلفهم بها الله. الثاني: أن يكون العالم أكثر سلما وديمقراطية بعد الحرب العالمية الأولى وتمثل ذلك فى النقاط الأربع عشرة للرئيس نيلسون. الثالث: بعد الحرب العالمية الثانية ظهر المبدأ الثالث "الإحتواء" لمواجهة الشيوعية الروسية والصينية تجنبا لقيام حرب عالمية ثالثة وقد قام رونالد ريجان مع مارجريت تاتشر والبابا يوحنا بولس بإحتواء وتخريب الشيوعية من الداخل والخارج حتى سقطت بدون الحاجة الى العنف عام 1989. الرابع: تحسين العالم، وهو ما يعنى أن تبذل أمريكا أقصى جهد ليصبح العالم أفضل سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، وقد كان النموذج لذلك مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا. لكن كان تدخل أمريكا فى فيتنام علامة فشل ذريع لهذه المبادئ الأربعة ولقد وضح الصراع بين المثالية والواقع، بين العهد القديم والعهد الجديد بين عهدى جورج بوش الابن وأوباما، فقبل جورج بوش كان بيل كلينتون يحاول بكل جهده ألا يكرر أخطاء بوش الأب في استخدام السلاح لحل المشاكل وكان عهده هو عهد الرخاء الإقتصادى للمواطن الأمريكى لكن جاء جورج بوش الابن ليقول أنه يستشير الله فى كل قرار وأن عليه أن يفرض الأخلاقيات والعدالة والسلام بالقوة، وعندما تحدث عن حملة صليبية لم يكن يقصد الحروب الصليبية ضد الإسلام لكن الحروب الصليبية لإنتشار أخلاقيات الصليب الموت فداء المبدأ وفرض السلام بالسلاح، وهو ما لم يقله المسيح إطلاقا ولا يعبر عن فلسفة الصليب. وكان صديقه الواعظ العالمى بيللى جراهام يشاركه بآيات من الإنجيل فى كل قرار يتخذه إنها الواقعية وهكذا تأثر بوش وكلينتون بالتناقض الأمريكى بين الواقعية والمثالية أى بين القومية والعالمية أو العهد القديم والعهد الجديد، لكن جاء أوباما ليصحح ما فعله بوش وأراد إحتواء الإخوان المسلمين بل والتعامل مع الجماعات المتطرفة برفق. ولعلنا نتذكر خطابة فى جامعة القاهرة الذى كان يفيض بالفهم والتفهم وقبول الآخر وقرأ آيات من القرآن الكريم أراد أن ينحاز للإحتواء"المثالية" أكثر من القوة العسكرية سحب قواته من العراق ومن المضحك المبكى أن مسلمى الوطن العربى اعتبروه متعاطفا معهم واتهمه بعض المسيحيين بأنه مسلم متخفى وقال البعض أن اسمه باراك "بركة" وأن جذوره الإسلامية أثرت عليه ولم يعلم أحد أنه يتحدث دائما وأبدا وعن إقتناع كامل عن أن الأخلاقيات الأمريكية "العهد الجديد" يجب أن يخضع لها العالم من سلام وحب والتى تنبع من الآباء المؤسسين فلا يجب أن يستخدم السلاح إلا فى حالات إستثنائية نادرة لذلك حتى داعش يريد أن يحتويها. وكما احتوى ريجان الاتحاد السوفيتي وفتته دون عنف خارجي هكذا فعل اوباما بالشرق الاوسط ومازال. إنها المثالية الأمريكية يا صديقي ولا عزاء للمتدينين العرب سواء كانوا من المسلمين أو المسيحيين.