×
محافظة المنطقة الشرقية

برامج أميركية لجامعيي الدمام

صورة الخبر

وجد الأرشيف في تونس نفسه فجأة في دوار التاريخ. حملته موجة الثورة الإلكترونية التي نشأت منذ 1989 مع اختراع الإنترنت، وحملته موجة الثورة السياسية. فكان بين كونية عاتية ومحلية عاصفة. لكن تونس تختلف عن دول الدومينو العربي، إذ لم يدمر الأرشيف بل سقط فقط في فخ الصراع السياسي وأصبح من أدواته. والأرشيف هو مجموع الوثائق التي تنتجها الإدارة أثناء عملها، ثم تتحول إلى رصيد يحافَظ عليه لتتواصل الدولة. ويتيح قانون 1988 الاطلاع على الأرشيف بعد 30 سنة عموماً، وبعد 60 سنة على وثائق الحياة الخاصة وقضايا المحاكم و 100 سنة على وثائق الحالة المدنية والتسجيلات والمعلومات الشخصية الطبية والمهنية. وليس من طبيعة الأرشيف أن يتحول إلى أداة سياسية. والسياسيون لا يحق لهم التصرف في الإرشيف. وحق النفاذ إلى المعلومة ينص عليه الدستور وفق المعايير الدولية. وخاصية الوضع الأرشيفي في تونس هي أن الإرهاب ليس لاعباً أساسياً في الصراع السياسي الذي يلوي عنق الأرشيف. فالإرهاب لا يؤمن أصلاً بالسياسة. وعملية باردو الإرهابية في آذار (مارس) 2015 مثلاً لم تستهدف محتويات المتحف بل العين التي تطلع عليه. احترق عدد من المقرات العمومية أثناء الثورة، منها محاكم وبلديات ومراكز أمن وإدارات مالية. كانت الثورة ذات طابع اجتماعي تطالب بتحسين وضع الفئات الفقيرة والمناطق المحرومة. وحصل الصدام بين الدولة والفئات المحرومة. وما زال قائماً بأحداث متفرقة. جاء ذلك في سياق ضعف الدولة، وكان الخطر الكبير أن تتسع ويكون الأرشيف ضحية. والثورة ذاتها احتاجت إلى توثيق. وكانت الثورة والدولة في تناقض، فالدولة وثقت نفسها من قرون بالوثيقة الورقية، أما الثورة فتوثيقها إلكتروني بخاصة أن جزءاً منها وقع أصلاً على «الأرض العنكبوتية». تقليد راسخ ويفسّر صمود الأرشيف في تونس على رغم التصدعات برسوخ الأرشفة في الدولة التونسية. وظهرت أول مؤسسة أرشيف عام 1874 على يد خير الدين التونسي «خزينة حفظ مكاتيب الدولة»، وهي الآن مؤسسة «الأرشيف الوطني» وحفظت لنا وثائق بالغة الأهمية مثل «عهد الأمان» وهو من أوائل وثائق المواطنة وقرار إلغاء العبودية عام 1845 ودستور تونس 1861 وهو الأول عند المسلمين. اذاً هو من مقومات السيادة. ومع الاستعمار الفرنسي 1881 ظهر «أرشيف الإقامة العامة»، وهي الإدارة الاستعمارية. وبقي منه جزء في «المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر». أما الجزء الكبير فهو في وزارة الخارجية الفرنسية وفي الأرشيف الوطني الفرنسي. وبعد الاستقلال عام 1956 طوّرت الدولة «الأرشيف الوطني» بجمع الأرشيف المتعلق بتونس والموجود في الخارج وحفظه وتمكين الباحثين من الاطلاع عليه. وهو يتعلق بتاريخ تونس من نهاية القرن الـ 17 إلى العام 1956. وأنشئ عام 1957 «مركز التوثيق الوطني» ليجمع الوثائق الصحافية. ولأرشيفات الرئاسة والوزارات اليوم أهمية بالغة بسبب مقتضيات العدالة الانتقالية والحاجة إلى الوثائق لسن الدستور والقوانين. فوثائق ما بعد 1956 لم تدرج في «الأرشيف الوطني»، والأرشيف العام غير كاف في العدالة الانتقالية التي مرتكزها البحث عن الحقيقة منذ 1955 والانتهاكات والتجاوزات في تلك الفترة حتى لا تتكرّر. فالدولة لا توثّق انتهاكاتها، لذلك خاض الناشطون حرب توثيق ضد نظام زين العابدين بن علي. ويعطي القانون الأساسي الذي أنشأ «هيئة الحقيقة والكرامة» هيئة العدالة الانتقالية الحق في النفاذ إلى المعلومات والوثائق المتعلقة بالانتهاكات التي تشملها تحقيقاتها. من هنا تظهر أهمية الأرشيف الخاص عند الشخصيات الوطنية والعائلات والجمعيات والشبكات المناضلة. ضرب تحت الحزام خنق بن علي الوصول إلى المعلومة على رغم أن النص القانوني يجيزه. ولم يدرج أرشيفات الرئاسة والوزارات ضمن الأرشيف الوطني حتى لا يفهم أحد كيف تشتغل ماكينات الفساد. حصلت حادثة غامضة في 2010 حين نشب حريق في معهد الآداب العربية «إيبلا»، وهي مؤسسة مسيحية في تونس منذ 1927 تعنى بالأدب العربي واحترق 17 ألف كتاب، جزء منها نادر فيه كتب ألفها سراً فلسطينيون تحت الاحتلال حول الأدب الفلسطيني. وقبل ذلك بسنوات احترق أرشيف الفرقة البلدية للمسرح، وهي أول هيكل مسرحي محترف في تونس ونشأت عام 1953. فضاع جزء من التاريخ. أم المعارك في حرب الأرشيف هي حادثة القصر الرئاسي في 24 كانون الأول (ديسمبر) 2014 حين توجهت سهام بن سدرين رئيسة هيئة العدالة الانتقالية إلى القصر الرئاسي مصحوبة بست شاحنات لنقل الأرشيف، غير أن الأمن الرئاسي منعها. كان حدثاً عاصفاً. فالفراغ أنتج هشاشة بين رئيس انتهت ولايته ورئيس لم يباشر بعد ولايته. وخاضت البلاد صراعاً سياسياً في ظاهره قانوني: هل معنى النفاذ إلى المعلومة هو الاطلاع عليها أم وضع اليد على الوثيقة؟ هل يبيح قانون الهيئة وضع اليد على كل الأرشيف أم مجرد الاطلاع على ما يهم القضايا؟ وحسم مدير الأرشيف الوطني الهادي الجلاب الجدل بتحويل السؤال إلى هل يجوز النقل العشوائي للأرشيف أم لا بد من مراعاة معايير الأعمال التقنية الضرورية مثل التصنيف والوصف والتكشيف والترفيف وإعداد الفهارس اليدوية وقواعد البيانات الآلية؟ تصرفت بن سدرين بما يخالف القانون عندما توهمت أن قانون العدالة الانتقالية بسبب استثنائيته هو فوق القانون. وكانت الحجة الكبرى في حسم الجدل هو أن تكون حماية الذاكرة الوطنية ومصادر التاريخ مستمرة ودائمة، وبالتالي لا يجوز بعثرة الوثائق لبناء أرصدة الأرشيف وحفظه وإتاحته للعموم. ويعتبر إصدار الرئاسة عام 2013 في فترة المرزوقي للكتاب الأسود حدثاً أرشيفياً مهماً. فالكتاب يتعلّق بدور الإعلام في دعم الدكتاتورية من خلال معلومات عن منظومة الدعاية تحت حكم بن علي. وأثار الكتاب مشكلة استعمال الأرشيف الرئاسي واعتبر معارضوه أن نصه لم يتقيد بقوانين الأرشيف، ومنها أن الكشف عن المعلومات الأرشيفية لا يتم إلا ضمن العدالة الانتقالية وأن مؤسسة الرئاسة غير محايدة لأن فيها سياسيين. ولم يصدر الكتاب أصلاً وظهر منه مجرد تسريب إلكتروني. وما زالت المحاكم التونسية بصدد النظر في دعاوى مقامة ضد الكتاب.