ذكرت في مقالين سابقين المواصفات التي دعتني إلى تسمية ظاهرة الكتابة الروائية خلال السنوات الأخيرة بـ»رواية الجوائز»، متملّياًَ فيها قدر المستطاع السمات التي اجتمعت عليها الروايات. لكنّ هذا العام، 2015، شهد أمراً جديداً، وهو أمر لافت للنظر فعلاً. فعلى رغم حضور «الإثارة الجنسية» في رواية «الطلياني» لشكري المبخوت مثلاً، وهي فازت بجائزة البوكر العربية، إلا أن الثقل الفكري والسياسي هو الطاغي، بينما استطلعت رواية «ممر الصفصاف» لأحمد المديني الأبعاد الإنسانية للتحولات في المدن تحت وطأة رأس المال المستحدث جراء الانخراط في اقتصاديات السوق والعولمة التجارية التي يقودها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ولربما رأت لجنة التحكيم ضرورة الخروج جزئياً من دائرتها السابقة على رغم أن بعض الروايات الفائزة من قبل مثل «القوس والفراشة» لمحمد الأشعري و «طوق اليمامة» لرجاء عالم و «ترمي بشرر» لعبده خال و «فرانكشتاين في بغداد» لأحمد سعداوي وغيرها روايات ناجحة، تمتلك مواصفات الرواية الحديثة وتشتبك اشتباكاً مراً وقاطعاً بتفاصيل التحولات الحياتية في عالمنا العربي بكارثيته المتميزة. وإذ لي عودة إلى هذه الروايات في مقالات لاحقة، أرى مناسباً تقصي سمات الروي في «الطلياني». وكما ذكرت، كان ثقل الرواية ينحو باتجاه الفلسفة السياسية لحنّة أرندت والحراك الطالبي التونسي مع إيماءات نحو «الفعل» الذي رأت أرندت أنه إمكانية فردية جماعية يشارك المثقف في إيقادها لتتشكل طاقة فريدة. «الثقل» الفكري وأبلغ السبل نحو «الطلياني» روايةً هو السؤال في إمكانية تجريدها من هذا «الثقل» الفكري، ومن «حفل التفلسف» (ص 142) الذي لم يخف الراوي وعيه به كفائض ملحوظ يرهق البناء السردي. فالرواية ناقصاً الثقل الفلسفي السياسي هي حكاية عبدالناصر وزينة وتناميها داخل الحراك الطالبي وانتهائها بتخرجها وانخراط كل واحد منهما في مسار آخر: عبدالناصر صحافياً وباحثاً عن علاقات مستجدة مع النساء، وزينة متمردة على واقع يريد مقايضة النجاح بالجسد، فتذهب إلى باريس لتحيي علاقة محتملة مع أرك شين، الكهل المثقف المأخوذ بحدتها في الجدل ودربتها في المناقشة. أما الإطار الذي جاهد المؤلف وضع كل ذلك داخله فلا يعدو مشهد المقبرة، وهو مشهد يبدو فيه عبدالناصر حانقاً على الشيخ علاّلة، الزوج العاجز لجنينة، التي صاحبت عبدالناصر وآخرين. أما سر هذه الثورة وذلك المشهد داخل حفرة القبر فهو اعتداء علاّلة على عبدالناصر طفلاً. ومن المعروف أن عقدة كهذه يمكن أن تنمو نمواً كبيراً في تكوين المتواليات السردية، لكنها تركت جانباً في «الطلياني»، ولم يتذكرها الراوي إلا قرابة النهاية، النهاية التي جاءت خاتمة لعلاقة محتملة مع الشابة ريم. فلولا الصدمة التي انبعثت من رائحتين متغايرتين لما تذكر عبدالناصر علاّلة ثانية، وعرض الراوي تفاصيل العقدة. قدمت «الطلياني» عبدالناصر على أنه وسيم جذاب على رغم ما بدا عليه يوم مقبرة الزلاّج: طائشاً بسروال جينز وشعر أشعث ولحية معفاة. هذا الطلياني الجذاب ثار ذلك اليوم ووجه «ضربة بحذاء (البرودكان) إلى وجه الإمام الذي كان في الحفرة يستعد لدفن المرحوم (والد صلاح الدين وعبدالناصر الحاج محمود (ص 7). وكان بمقدور الراوي التوسع في قضية جنينة وعبدالناصر مثلاً ويربط بين هذا الخيط وذاك الإطار. لكنّ رواية «المثقفين» تسعد أكثر بتجاوز المتواليات السردية المعنية بالحالات النفسية وعرض مجموعة الشخوص والعائلات بديلاً عن ذلك في حلقات التناقضات المختلفة التي تتجاوز الحدود المعروفة اجتماعياً: العائلة الواحدة هي الأخرى مجموعة من التناقضات، يعكس واحدها الآخر، فمن دون صلاح الدين يصعب أن نرى عبدالناصر كاملاً. كما أن صلاح الدين يرى شيئاً من ذاته في تمردات أخيه وانفلاته من الحدود التي تضعها العائلة التقليدية. ومثل هذا التغير والانعكاس في المرايا المختلفة هو ما يميز «الطلياني». بدل وحدات السرد المتصاعدة، لدينا المرايا المتعاكسة: نرى عبدالناصر من خلال تناقضه مع الآخرين في عائلته، ونرى رئيس تحرير الجريدة الرسمية ومديرها العام مكملاً لعبدالناصر ومناقضاً له، ونرى عبدالناصر مستعداً لمزاولة دور المدرب والمرشد للعاملين الجدد في حقل الثقافة (219-220). أما التقابل والتلاقي الأساس فيتحققان في اللقاء بزينة. وهذه العلاقة بما تبدو عليه من وهج مرة وخفوت مرات، أمسكت بالبناء الأساس لـ»الطلياني». ولهذا نقرأ فيها مسارهما الطالبي أولاً ثم انخراطهما في العمل وصدمة المناظرة في امتحانات التبريز وانسحاب زينة من المشهد بعد انقطاع صلتها بقريتها إثر رحيل أمها وشعورها بموت الرغبة في الزواج لا «الصداق». هذا المسار الذي يميز روايات «الحرم الجامعي» قلما يكون مثيراً أو مهيمناً فعلياً في السرد. لهذا السبب أقول بلزوم قراءة «الطلياني» قراءة مختلفة، لا تبحث عن طاقة سردية أو إثارة مفعمة، ولا عن أسرار كتلك التي ميزت عدداً من روايات «الجوائز». إن طاقة «الطلياني» فلسفية سياسية أولاً، تتبعها تأملاتها في الوضع التونسي الثقافي من خلال حوارات عبدالناصر وسي عبدالحميد. فكل حدث أو فعل له محمولاته. وحتى مشهد المقبرة لم يخل من هذه التأملات والمحمولات. فها هو الراوي يبتدئ الرواية بما يمكن أن يؤول إلى مفتتح مثير لرواية الدهشة والإثارة. تقول الفقرة الأولى: «لم يفهم أحد من الحاضرين في المقبرة يومها لِمَ تصرّف عبدالناصر بذاك الشكل العنيف. ولَم يجدوا حتى في صدمة موت الحاج محمود سبباً مقنعاً» (ص 5). وفي نهاية الصفحة وفي تعليق على «موكب الدفن» وهيبته، يقول باث السرد: «الموتى لا يتساوون، والجنازة دليل على رأس مال المتوفي وعلى ما في رصيد العائلة من المعاني والرموز والمكانة» (ص 5). ومثل هذه التعليقات كثيرة بعضها يأتي مناقضاً لباث السرد الذي عرض لنفسه «سلبياً» و «امتثالياً» كما يقول عنه عبدالناصر (ص 40). والراوي يعرض لنفسه شاكراً لعبدالناصر لأنه «جعلني حافظ أسراره» (ص 40). لكن هذا الراوي، وحافظ الأسرار، تحول داخل النص إلى عارض عارف بالفلسفة السياسية وبالحراك الطلابي والجدل الاقتصادي بين مذهبين متعارضين، أحدهما يمثله الأخ الأكبر صلاح الدين بصفته خبيراً دولياً مؤمناً بالاقتصاد الحر والانضواء في العولمة وبين آخر اشتراكي يمثله عبدالناصر الذي يستند إلى النظرية الماركسية في تحليل الخطر الذي يحيق بالاقتصاد التونسي ومفهوم الدولة (ص 15). لكن هذا الصوت الدافئ جعل الرواية تسير في طرائق الجدل أولاً لا القطيعة: ولهذا كانت هناك وقفات تحول دون التقاطع الحاد، وهذه الوقفات هي التي تترك الروي مستمراً وإن حفل بكثير من الآراء والمواقف. ولهذا فعلى رغم الخلاف البَيِّن مثلاً بين صلاح الدين وأخيه الأصغر عبدالناصر، نسمع الراوي يقول: «بيد أن لم يتصارحا به هو أنّ صلاح الدين كان معجباً بحماسة أخيه ويرى أنّ وعيه السياسي قد نضج وأنه فتى ملتزم يبني شخصيته على طريقته. وكانت تعجبه جرأته وفصاحته وقدرته على الاحتجاج لآرائه. وأما عبد الناصر فكان منبهراً بالمعرفة الدقيقة التي يمتلكها أخوه خصوصاً حين يقدّم له تجارب اقتصادية لم يسمع بها من قبل» (ص 15-16). ليس مهماً أن تتساءل كيف تمكن الصوت الامتثالي السلبي من مثل هذه التفاصيل وغيرها كثير، لكنّ المهم هو نية المؤلف في اختيار صوت «سلبي» و «امتثالي» يتيح النقل كما هو وبقليل من التدخلات. كما أن هذا الصوت يعتمد وفاقاً ما، وهذا «التوافق» يمكّن الفلسفة السياسية لاحقاً والجدل المادي التاريخي أو (الليبرالي) الذي يلجأ إليه سي عبدالحميد في مناقشة مفهوم الدولة والسلطة والإيديولوجية، من أن تبني لنفسها حيزاً كبيراً داخل هذه الرواية التي يمكن أن يتراجع حجمها إلى «الثلث» من دون هذا الثقل الفكري والحجاج السياسي الذي تستدعيه الرواية العربية في تونس في مفصل تاريخي مهم في حياة تونس السياسية والثقافية. حدّة وتمرّد ولهذا أقول إن شكري المبخوت مؤلفاً وروائي الواحدة (حتى الآن) يبشر بفتح جديد في الرواية التونسية من خلال اقترابه الفعلي، وتداخله، بالوضع السياسي - الفكري التونسي، وهذا لا يعني لزوماً مصادقةً على التكوين الفني للرواية. فعقدة عبدالناصر مثلاً كان لها أن تتسلل أكثر داخل النص وتفسر ضمناً شيئاً من حدته وتمرده وانهماكاته النسوية التالية. لكن مثل هذا الانصراف يجرد الرواية من بعض ثقلها الفكري الخاص بالحراك الطلابي. والغريب أن زينة لم تكن تبني حضورها وتمردها وتطلعها الفلسفي السياسي على راسب ما. وحتى عندما يريد عبدالناصر تشخيص هذا التمرد وذلك الوهج لا نجد كثيراً من التاريخ الشخصي. فزينة فكرياً ذاتية التكوين: «و... أكثر ما شدّ انتباه عبدالناصر إلى خُطب زينة هو إلحاحها على دور المثقفين في تحليل الواقع. فهي تتهم اليسار بغياب العمق الفكري والاكتفاء بقوالب جاهزة حول نمط الإنتاج في المجتمع» (ص 55). وينقل الراوي مناقشتهما بهذا الصدد، إذ تقول: «المثقف عندي من ينقد دون حسابات» (ص 60) وهو، أي عبدالناصر، إذ يتواضع أمامها «ليخبرها أنه تعلم منها الكثير(ص 59)، فإنه يشخص لها الفرق بين الخصوصية الفكرية والتنظيم: «المسألة لا تقوم بالضرورة على التطابق التام بين الانتماء السياسي والخصوصيات الفكرية لكل فرد... التنظيم... جهاز للتفكير الجماعي يقبل في الأصل التنوع والاختلاف» (ص 59). أما تاريخها الشخصي، بربرية من عائلة مسحوقة (ص 47، 49)، فلا يفسر تحولاتها اللاحقة. وعلى خلاف ذلك، كان الراوي يقدم عبدالناصر على أنه مجموعة حزم أخذت عن مكتبة أخيه صلاح الدين، وعن أستاذ الفرنسية (ولربما الفلسفة؟) فتحي .ك (ص 42). وبقدر ما يتيح هذا النمو الواضح عند طالب الحقوق سطوعاً في الرأي وقدرة على المناورة والحذق في التنظيم، وبالتالي في تكوين آليّة سردية مناسبة، إلاّ أنه بدا عاجزاً أمام إشكالية الشخصية المعقدة، الفلسفية السياسية، وصعوبة تموضعها في حياة تجمعهما في مؤسسة اجتماعية دارجة كالزواج. يمكن القول، لكنها أي زينة شأن أرندت في مطلع حياتها، تتمرد على هذه العلاقة والتي لم تكن غير تطوير لاحق لمشهد عاصف احتضنها فيه عبدالناصر مطروحين على الأرض تحت هراوات أعوان الأمن السياسي. وينتهي هذا التساؤل، بمزيد منه، فيراها متطلعة طامحة: «هل يشبع من يأكل من مائدة الطموح طالباً ما وراء العرش؟ (ص 216). وهنا يمكن للقارئ أن يستطلع دافعاً أسمه الطموح ليرى فيه محركاً سردياً قوياً: فإذا كانت الرواية بصفتها ملحمة بورجوازية في تاريخها الأوربي مثلاً تعتمد التسلق الاجتماعي والحركية الاجتماعية والمرونة سبيلاً في بلورة التناقضات والشخوص، فإن الرواية الفكرية قد تدفع بـ«الطموح» في مسار معرفي يتوافق مع التحولات المستجدة في عصر «رأسمالية العولمة»، فالطموح المعرفي شأن التقني بين فئات التقنيين والمدراء ذوي الياقات البيض، يشتغل هو الآخر دافعاً في كتابة سردية تخرج تدريجياً من المواصفات الرمزية أو الاجتماعية المحض التي اقترنت بالرواية طيلة قرنين. ولكن، إذا ما سلّمنا بذلك، لنا أن نتوقع أيضاً نمواً مضطرداً في هذا الاتجاه. وهو ما جرى لحين رحيل زينة، تاركة المشهد يتراجع أكثر إلى الأوضاع اليومية والسياسية، من رقابة وفساد وهيمنة سلطوية، وظهور فئات من الثرثارين والمرتشين والساقطين. رواية «الطلياني» لشكري المبخوت إشكالية، تماماً كما تريد بطلتها للمثقف أن يكون، وكما يريد عبدالناصر للصحافة: لكنها أيضاً تجعل أصوات صلاح الدين وعبدالحميد والعم حسن، وكذلك نجلاء، وآخرين، شركاء في هذا الفضاء الذي يتيح الكلام همساً ليصغي ضمناً إلى التحذيرات والتنبيهات التي يأتي بها سي عثمان للحيلولة دون صدام لا يريده النظام أيام زين العابدين ما دام مشغولاً بمناطحة الظلاميين. * أكاديمي عراقي - جامعة كولومبيا، نيويورك