إن الإرهاب المادي قطعا نتيجة حتمية للارهاب الفكري الذي يعني فرض رأي أو سلوك على أنه الصواب والشرع قد أقر فيه حرية الاختيار. لا شك أن هذه الظاهرة قديمة وعالمية تكاد تكون موجودة في كل المجتمعات، فهي ليست بظاهرة حديثة، بل هي موجودة في كل المجتمعات منذ القدم لكن بنسب متفاوتة تختلف من مجتمع لآخر وإنما يزداد وجودها في أكثر المجتمعات تضييعا لقيم الانسانية والدين والعقل والفطرة. لقد تشكلت لدى الأمم والشعوب مع مرور الزمن ثقافات متعددة مردها الخير والشر ومنها الارهاب، فالحياة الإنسانية كما أن فيها الرحمة والصداقة والتسامح والمحبة وغير ذلك من سلوكيات الخير التي تصل لأعلى مراتب الفضل والاحسان، فيها أيضا العنف والقسوة والعداوة والضغينة والبغض وغير ذلك من سلوكيات الشر التي تبلغ أبشع الصور كالارهاب الفكري والمادي المتجسد في القتل والتدمير والاغتيال ونحو ذلك. لقد أخذت ظاهرة الارهاب صورا وأشكالا مختلفة، وتطورت في العصر الحاضر لتصبح ظاهرة متعددة الفروع بديلة للحروب التقليدية تستفيد من التقدم العلمي وثورة الاتصال والإعلام والمعرفة، ويعملها الانسان كقوة فاعلة في الصراعات السياسية، سواء كان إرهاب شعوب لحكومات أو إرهاب حكومات لشعوب، أو ارهاب بعضيهما لبعض. فمعاناة البشرية لخطر الإرهاب بأشكاله المختلفة لم تتوقف والتاريخ أكبر شاهد على حقيقة تلك المعاناة، ولا يزال خطره يهدد الإنسانية بالويلات والفظائع. لقد أهدرت هذه الجريمة الأعراف والأحكام المعهودة في كل شيء حتى في الحروب، إذ أصبح العالم مسرحا لحرب متنقلة لا يراعى فيها شيء من الأحكام والمحظورات، فبعد أن كانت الحروب لها أعراف وأحكام تحترم حتى مع العدو البين تحولت عبر هذه الجريمة إلى دمار شامل للإنسان والقيم، بل جاء من يبررها أو يشرعها تحت مظلة القانون والنظام بأي حجة شيطانية باطلة، والأسوأ أن نجد أن الإرهاب في عالمنا الإسلامي قد تجاوز الارهاب المعاصر في حضارة الأمم الأخرى إذ أصبح يمزق مجتمعاته. والسبب أن الإرهاب الفكري تفشى في بلدان المسلمين بفشو التشدد والغلو في الدين، فالذي يعتمد التعصب في الفقه المقلد أو الحرفية في فهمه، أو القداسة في اجتهادات الأولين، أو السطحية والجمود في فهم النصوص، دون الرجوع إلى النصوص الكلية للشرع، وتحري مقاصده وغاياته، وتحقيق مصالحه العامة وتلمس روحه ومضمونه، والبحث عن حكمته ومغزاه، لا شك أنه سينتهي إلى التشدد الذي يفرض رؤيته ويقصي كل من يخالفها ولا يقبل مع ما يراه رأيا آخر وهذا حتما يدفع بانتشار الإرهاب الفكري في المجتمعات. فالعلاقة وثيقة بين الإرهاب الفكري والتشدد الديني؛ وهذا بلا شك هو الذي يؤدى في النهاية إلى الإرهاب الجسدي القتل والتفجير والتدمير والتخريب وترويع الأبرياء. فالمتشدد لن يتسع صدره لمن يخالفه الرأي، والمتشدد سيعمل ليل نهار على نشر تشدده وفرض رأيه بكل ما أوتي من قوة. لقد غاب عن هؤلاء المتشددين وسطية الدين ومنهج السلف الصالح الذي كان يقوم على حرية الرأي والتعبير، وقبول آراء الآخرين بصدر رحب، وقبول الحوار من أجل الوصول إلى الصواب، والرأي الأفضل؛ لأنهم أدركوا حقيقة مهمة وهي أن آراءهم ليست في كل الأحوال هي الصواب. ولذلك قال الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، وبهذا المعنى صرح بقية الأئمة. فالخلاصة أن الإرهاب الفكري لا يمكن معالجته بمعزل عن مواجهة التشدد الديني، ولا بمعزل عن تحقيق المواطنة التي تحفظ لكل مواطن حقوقه، ولكل ذي ذمة أو عقد حقوقه. إن علاج ذلك يقتضي نشر وتعزيز ثقافة المواطنة والاختلاف، واحترام آراء الآخرين، وفوق هذا وذاك يجب ترسيخ ضرورة الحوار الهادف وآدابه من خلال مؤسسات المجتمع وكتابه ومفكريه وقادته وهذا ما يجب أن يبينه العلماء بالعمل قبل القول؛ لتصحيح المفاهيم الخاطئة والأفكار المغلوطة. مدير عام هيئة الأمر بالمعروف بمنطقة مكة سابقا