بعد فترة من الكمون العملياتي، عادت حركة الشباب الصومالية الإرهابية لتطفو بشكل دراماتيكي على سطح الأحداث في الصومال، بالرغم من التحصينات الأمنية الصارمة، حيث غطت هجماتها معظم ربوع البلاد، وتجاوزت عملياتها الحدود، لتضرب أمن واستقرار دول الجوار. فكان هجومها النوعي على جامعة غاريسا في كينيا بمثابة إهانة بالغة للدولة الكينية، ورسالة قوية إلى خصوم الداخل والخارج تؤكد أن تواريها المؤقت عن المشهد السياسي، لم يكن يعني أفول نجمها، بقدر ما كان يجسد حالة الهدوء التي عادة ما تسبق العاصفة. كانت حركة الشباب قد تعرضت لسلسلة من الصدمات التي أدخلتها في دائرة من الركود، وأثرت في قدرتها على الحركة الفاعلة، وذلك نتيجة للضربات العسكرية التي تلقتها، وإنجاز استحقاقات العملية الانتقالية في البلاد، والانشقاقات التنظيمية بين أجنحتها، وتراجع دور تنظيم القاعدة العالمي، الذي تدين له بالولاء، واغتيال زعيمها أحمد عبدي غودني (مختار عبدالرحمن) في سبتمبر/ايلول2014. ففي أكتوبر/تشرين الاول2011، شنت القوات الكينية حملة عسكرية ضد الحركة عرفت باسم عملية حماية الأمة، وذلك رداً على اعتداءاتها المتكررة داخل العمق الكيني، حيث نجحت القوات الكينية في إجبار الحركة على الانسحاب من معقلها الأساسي في مدينة كسمايو في سبتمبر2012، فكان ذلك خسارة فادحة للحركة، التي تعتمد على مرافئ المدينة في تأمين المال والسلاح. في غضون ذلك، نجحت حكومة شيخ شريف شيخ أحمد في الوفاء باستحقاقات المرحلة الانتقالية، التي بدأت في يناير/كانون الثاني2009 ، ليتم انتخاب حسن شيخ محمود رئيساً للبلاد في سبتمبر2012، كأول رئيس غير انتقالي للبلاد منذ العام 1991، وهو ما كان يعني هزيمة مشروعحركة الشباب، الذي كان يرمي لإطاحة العملية الانتقالية، وإقامة دولة تطبق الشريعة الإسلامية في الصومال. كما تمكنت قوات الاتحاد الإفريقي في الصومال أميصوم والجيش الوطني من تحرير ثلاث عشرة منطقة من أيديالشباب، أهمها براوة، التي تمركزت فيها الحركة بعد الانسحاب من كسمايو، بالإضافة إلى بيدوا وبلدوين، وهيران وكادان، وهو ما اضطرها إلى مزيد من التراجع صوب المناطق النائية والريفية في جنوب الصومال، بعدما كانت تسيطر على ثلثي مساحة البلاد في العام 2007، وبعد أن كانت اسماً بارزاً على اللائحة الأمريكية للتنظيمات الإرهابية عبر العالم منذ مارس/آذار2008. وهنا كان فقدان الحركة لمعظم مصادر الدعم المالي والتسليحي، وفك الارتباط بينها وبين العديد من القيادات القبلية، سبباً مهماً في عدم قدرتها على الاحتفاظ بالمناطق الخاضعة لسيطرتها، ما اضطرها إلى إخلائها، بعد أن تيقنت أن ميزان القوى لم يعد في مصلحتها. ازداد الأمر سوءاً مع ظهور بعض الانشقاقات داخل الحركة، بدأت بالاشتباكات بين الشباب المجاهدين والحزب الإسلامي، نتيجة للصراع على عوائد ميناء كسمايو، بالرغم من التحالف القائم بينهما، مروراً بانسحاب بعض العناصر من الحركة، وانضمامها إلى الجيش الوطني، وصولاً إلى الصدام بين العناصر الجهادية المهاجرة التي انضمت إلى الحركة وقيادتها المحلية، حيث تبنى المهاجرون مبدأ عالمية الجهادية، بما يعنيه ذلك من ضرورة انخراط الشباب المجاهدين في قضايا المسلمين في شتى بقاع العالم، بينما تمسكت القيادات المحلية بالتركيز على قضايا الداخل، مع إمكانية توجيه ضربات للدول الداعمة للحكومة الصومالية، مثلما حدث في تفجيرات كمبالا عام 2010، وعملية ويست جيت في نيروبي عام 2013. بلغ هذا الخلاف ذروته مع تصفية بعض العناصر المناوئة لزعيم الحركة مختار عبد الرحمن، وعزل البعض الآخر من مناصبهم، ومن هؤلاء مختار روبو، المتحدث الرسمي السابق باسم الشباب.وقد استمر هذا الأمر حتى استفاقت الحركة على اغتيال قائدها العام مختار عبد الرحمن في سبتمبر2014، إثر غارة أمريكية على موكبه في منطقة شبيلي السفلي. هنا أدركت الحركة أنها لا بد أن تنتفض قبل أن تتهاوى وتفقد قدرتها على البقاء والاستمرار. لذا سارع مجلس شورى الشباب الى مبايعة أحمد ديري عبد القادر عمرأبو عبيدة، قائداً جديداً للحركة، خاصة أنه كان أحد مؤسسيها المقربين من مختار عبدالرحمن. كما كان يتولى جهاز الاستخبارات في الحركة، وبالتالي فهو يجمع في يديه كل خيوط التنسيق والتواصل داخل الحركة وبينها وبين حلفائها. لم ينتظر أبو عبيدة طويلاً، فسعى لتجميع شتات الحركة، بالمسارعة بتجديد البيعة لأيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة العالمي، وذلك لإيجاد قيادة عليا للحركة- ولو بشكل مؤقت- حتى تتم إعادة ترسيم خريطة تحالفات الحركة. وعمل على جذب التمويل اللازم لتجنيد العناصرالجديدة، وتوسيع نطاق عمل الحركة، بالحصول على نصيب من عائدات تصدير الفحم، وتحويلات الصوماليين في الخارج. عمد القائد الجديد أيضا إلى رفع معنويات عناصر الحركة، مؤكداً أن فقدان السيطرة على المدن الصومالية لا يعني هزيمة الحركة، بقدر ما هو تكتيك يستهدف استدراج قوات الاتحاد الإفريقي وعناصر الجيش الصومالي ومحاصرتها داخل تلك المدن، توطئة للإجهاز عليها. وقد دلل على ذلك بعدم إمكانية احتفاظ الحكومة المركزية بالمدن المحررة، أو مجرد إقامة مؤسسات أمنية أو قضائية أو خدمية فيها. وعلى ذلك ركزت قيادة الحركة على شن سلسلة من الهجمات النوعية، بدأت بالداخل الصومالي، ثم امتدت إلى الخارج. وقد طالت هذه الهجمات الدموية المسؤولين الحكوميين والدوليين، وفي مقدمتهم نائب عمدة مقديشو، وعدد من نواب البرلمان والقيادات العليا في الجيش والقضاء والمؤسسات الدينية، والممثل الدائم لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف، والعاملين في قطاع الإغاثة الإنسانية. امتدت الذراع الطويلة للحركة إلى كافة مناطق الدولة، من شبيلي السفلى في الجنوب، مروراً ببونت لاند في الشرق، وحتى ميناء بوصاصو على خليج عدن في أقصى الشمال، ولم تسلم منها أيضا العاصمة مقديشو شديدة التحصين. والأكثر من ذلك أن بعض هذه الهجمات كانت تتم في وضح النهار، وأنها تطورت نوعياً، فلم تقتصر على التفجيرات عن بعد والعمليات الانتحارية، وإنما تضمنت أيضا اقتحام قصر الرئاسة ومؤسسات الدولة والفنادق ومحاصرتها، واختطاف الرهائن. ومع الإقرار بخطورة تلك الهجمات، وبالرغم من تسارع وتيرتها وانتشارها الجغرافي، تبقى عملية غاريسا في كينيا هي أبرز العمليات النوعية لحركة الشباب منذ تأسيسها في العام 2004، بل إنها أكبر العمليات الإرهابية في القرن الإفريقي قاطبة منذ تفجير سفارتي الولايات المتحدة في كيينا وتنزانيا عام 1998، حيث تمكنت عناصر الحركة من عبور الحدود مع كينيا، والتوغل داخلها لمسافة تصل إلى200 كم، واقتحام جامعة غاريسا، واغتيال 148 مواطناً، من طلاب ومسؤولي الجامعة، كلهم من المسيحيين، بعد استبعاد المسلمين من بين الرهائن المحاصرين. استهدفت قيادة الشباب المجاهدين تحقيق عدد من المكاسب من وراء تلك الهجمات على المستويين التنظيمي والسياسي، بما يتسق مع عقيدتها التي ترفض الحلول الوسطى، ولا تقبل مطلقاً بالجلوس إلى مائدة التفاوض، وتتمسك باعتبار أن قوات الاتحاد الإفريقي هي قوات غازية تحمي حكومة عميلة ومرتدة، وهو ما يقتضي مواصلة المسير على درب الجهاد، والانتقام لقيادات الحركة الذين لقوا حتفهم. تنظيمياً، كان الهدف الأسمى هو الحفاظ على التماسك التنظيمي، وتقديم أوراق الاعتماد اللازمة إلى تنظيم داعش الارهابي، بعدما تيقنت قيادة الشباب المجاهدين أنه أضحى التنظيم الأقوى والأكثر قدرة على دعمها مادياً وتسليحياً، مقارنة بتنظيم القاعدة، الذي تراجعت قوته وشعبيته بعد رحيل مؤسسه أسامة بن لادن. لذا حرص الشباب على تنصيب حركتهم كقائد للجهاد في القرن الإفريقي، ومدافع عن حقوق المسلمين في الإقليم، بما يؤهلها لكسب ثقة تنظيم داعش، بإنشاء ما يعرف بولاية القرن الإفريقي، أسوة بجماعة بوكو حرام، التي أعلنت الولاء والبيعة لتنظيم داعش في مارس 2015. وعلى المستوى السياسي، استهدفت الحركة قطع الطريق أمام استكمال جهود المصالحة الوطنية، وإعادة بناء مؤسسات الدولة، خاصة بعدما نجحت الحكومة في تكوين عدد من الإدارات الإقليمية في بونت لاند، وجوبا، وجنوب غرب البلاد، وإنشاء لجان لصياغة الدستور، وتنظيم الانتخابات والأحزاب السياسية، وضبط الحدود، وإعادة الإعمار، وإعادة توطين اللاجئين والنازحين. كما سعت الحركة إلى ممارسة ضغوط سياسية للحيلولة دون نشر قوات تابعة للأمم المتحدة في الصومال، وإجبار الدول المشاركة ضمن بعثة أميصوم على سحب قواتها من البلاد. وبالفعل أدت عملية غاريسا إلى إثارة المعارضة الكينية ضد الحكومة، مطالبة بخروج القوات الكينية من الصومال، وإغلاق معسكر داداب للاجئين الصوماليين في شرق كينيا، تجنباً لمزيد من الهجمات، ودرءاً لفتنة طائفية محتملة بين المسيحيين والمسلمين في البلاد. بالرغم من ذلك، تتضاءل احتمالات إيقاف تلك الهجمات في المستقبل المنظور، في ظل عدم جاهزية الجيش وقوات الأمن في الصومال، وضعف سيطرتها على الحدود والسواحل، وتورط بعض القيادات القبلية والمسؤولين الصوماليين في تزويدالشباب بالسلاح، وغياب التنسيق الإقليمي، حيث تسعى كينيا لبناء جدار عازل على طول الحدود مع الصومال، دون التشاور مع حكومتها، وهو ما يمنح الشباب قدرة دائمة على الحركة، حتى لو اضطرت إلى التريث والتخفي أحياناً، بما يجعلها كالبركان الذي يمكن أن يثور دوماً بغير موعد مسبق. د.أيمن شبانة* *مدرس العلوم السياسية (معهد البحوث والدراسات الإفريقية جامعة القاهرة)