* من طبيعة الحركات والتيارات المتشدّدة يمينًا كانت أو يسارًا أنّها لا تنشأ وتتكوّن بين يوم وليلة، بل تأخذ وقتًا يطول أو يقصر حتى يستطيع المراقبون رؤية نتائجها وآثارها. * وبلادنا التي أكرمها الله بخدمة بيت الله الحرام، ومثوى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطبيق شرع الله، وسنّة نبيّه الخاتم، لم تسلم من مثل هذه التيارات المتشدّدة. ويذكر الشيخ حافظ وهبة الذي عمل مستشارًا للملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود -طيب الله ثراه- ثم سفيرًا له في لندن، في كتابه «جزيرة العرب في القرن العشرين» بأن جماعة متشدّدة عند تأسيس الدولة اعترضت على الوسائل والتقنيات الحديثة التي تمّت الاستفادة منها في بناء الدولة، مثل استخدام السيارات، والتلغرافات، والتليفونات، وانتصر أخيرًا فكرُ الاعتدال والوسطية، وانهزم الفكر المتشدد. * ومع بداية الثمانينيات الهجرية استغلّت بعض الشخصيات الدينية الوافدة هامش الحرية الموجود في بلادنا، مقارنة بالتضييق الذي كانت تعاني منه بعض الدول العربية الأخرى، فكان ما يتذكّره جيلي في زمن النشأة في بلد المصطفى صلى الله عليه وسلم، حيث اقتحم بعض طلبة العلم المدفوعين بالحماس، الذي شحن أولئك الوافدون نفوسهم به، معْرضًا يقوم ببيع بعض الأدوات والوسائل الحديثة مثل المذياع وسواه من باب الاعتراض غير المبرر، ولكن الدولة استطاعت وأد الفتنة في مهدها، وتم بعد حين التخلّص من تلك الشخصيات التي لم تراعِ موجبات الضيافة التي عُرفت بها بلادنا لكل الإخوة والأشقاء، وما كان لهم وللذين أتوا بعدهم، وأخذوا بمنهج الحاكمية وتبديع المجتمع وتفسيقه وتكفيره أن يجدوا موطئ قدم في مكان آخر، وكان نتيجة لذلك المنهج المشبوه والشاذ صدور البيان المتضمّن الكتاب الذي حمل اسم «الحكومة الإسلامية»، وهو مرجع قامت بنشره لاحقًا جماعة «جهيمان» المتطرّفة، والتي بناء على تلك المقولات المنصبّة على تكفير المجتمعات المسلمة بفطرتها الأصلية، أقدمت على فعل شنيع وهو سفك دماء المسلمين في البيت الحرام، وكان موقف علماء هذه البلاد المطبِّقة لشرع الله واضحًا وجليًّا، حيث أصدر ما يقرب من ثلاثين عالمًا في مقدمتهم الشيخان الجليلان عبدالله بن حميد، وعبدالعزيز بن باز -رحمهما الله- بيانًا ذكروا فيه «أن هذا العمل الشنيع الذي قامت به هذه الطائفة الظالمة والمعتدية التي انتهكت حرمة حرم الله وأقدس بقعة في أرضه، وسفكت فيه الدم الحرام، في الشهر الحرام، في البلد الحرام، وروَّعت المسلمين الآمنين في أمن الله وحرمه، عملٌ مخالفٌ لكتاب الله، وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمّة، ويُعتبر منكرًا عظيمًا، وإجرامًا شنيعًا، وإلحادًا في حرم الله». * يجب أن نقر حفاظًا على مكتسبات هذه البلاد الدينية والفكرية والاجتماعية والأمنية، وحماية للُّحمة القوية بين مواطني هذه البلاد وقادتها وحكامها بأن الفكر السروري والطالباني ثم القاعدي والداعشي وغيره قد تسلل إلى نفوس بعض أبناء هذه البلاد، وتمكَّن منهم فكرًا ومعتقدًا على خطورته وفساد مقولاته وتهافتها، متناسين أن مقتضيات الولاء للوطن. وتجدر الإشارة بأن هذه التيارات المتطرّفة لا تقر مطلقًا بمثل هذا المنزع الفطري. هذه المقتضيات وسواها تحتّم علينا -مواطنين، ومعلّمين، ووعاظًا، وأئمة، وكتَّابًا- توضيح خطورة المنحى التكفيري أيًّا كان مصدره، وضرورة محاربته، والكشف عن مخابئه، حيث حذَّر علماء السلف من خطورة ذلك، حيث يذكر الإمام أبو حامد الغزالي «والوصية أن تكفَّ لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك ما داموا قائلين: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، غير مناقضين لها، فإن التكفير فيه خطر، والسكوت لا خطر فيه»، ويحذِّر بلغة لا لَبْسَ فيها في موضع آخر، فيقول: «فإن استباحة الدماء والأموال من المصلّين إلى القبلة المصرّحين بقول لا إله إلاّ الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم». وذلك وسواه مستنبط من آيات القرآن الواضحة الدلالة في التحذير من قتل النفس الإنسانية.. «... أنه مَن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا» ومن أحاديث نبيّه الخاتم صلى الله عليه وسلم، الذي حذّر من جرم التكفير، حيث خاطب الناس في حجة الوداع قائلاً: «ألا لا تَرْجِعُوا بَعْدي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ»، ثم أردف يقول: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إلى أنْ تلقوه».