وصف منوعات المعركة التي دارت إبان الحرب العالمية الأولى بين الألمان والروس، قرب بيتها وهي بعد طفلة، قد تكون أول حادثة عنف انطبعت في ذاكرة حنّة آرنت (1906-1975) أول رسمة للعلاقة بين السياسة والعنف، والسلطة والسياسة، لمفهوم الدول التي تخوض حروباً. لاحقاً، ستعرف آرنت تجربة المنافي والاضطهاد في أوروبا بوصفها يهودية، إلا أنها لن تقف عند هذا التعريف الإثني. شخصنة الحكايا، لن يكون جزءاً من منهجها الفلسفي الذي أرادته عامّاً وفي متناول الجميع على اختلاف ثقافاتهم وتقاليدهم وخلفياتهم الاجتماعية، أو مدى ارتباطهم بالسياسة كمفهوم أو مجرّد طريقة. آرنت، التي عُرفت في كتاباتها باهتمامها بالفلسفة السياسية، تمثّل في الوقت عينه نموذجاً لمثقف تجاوز كل المبررات التقليدية للهوية، والحجج الظرفية التي غازلت المأساة أو الشعور بالقومية؛ أبرز ما أنتجته الحرب العالمية الثانية. وربما يكون تبحرها في فلسفة السياسة ومن ثم استشرافها العنف، ومحاولة فهمه في عملها الضخم، شكلت خلفية لما قالته ذات يوم بأن حب العالم هو من أصعب ما يكون. في كتابها في العنف، الصادر عن دار الساقي بترجمة إبراهيم العريس، ترسم آرنت صورة للعنف وحالاته حين تستخدمه الدولة في ظروف حساسة لقمع الشعب تارة، وتحصين نفسها من غزو خارجي أو هجمة، أو الاثنين معاً أغلب الأحيان. تنتهج أسلوباً صارماً في المقاربة والتفنيد، ومناقشة آراء تقليدية لمفكرين وفلاسفة كبار في ما يتعلق بظاهرة العنف. لا تقبل المفكرة الألمانية أن ترث المفاهيم المتعارف عليها، في شتى المجالات، والتي تبدو كما لو أن مطلقيها أرادوا دوماً تهريب العنف من الباب الخلفي للإنسانية، ومحاولة إيجاد مبررات حيوانية له، تجعله مشروعاً أو مقبولاً أو مسلَّماً به في أسوأ ألأحوال. بالنسبة لها، فإن السياسة، والعلوم، التاريخ، والفكر، كلها كانت وسائط للعنف لـيلعب دوراً عظيماً في شؤون البشر.