يتفنن بعض كتابنا في التنظير ولفّ الكلام وليّ أعناقه، وتوجيهه وفق رؤيته وحسب هواه، وكأنّ الموضوع مجرّد ملء فراغات أو صفحات في جريدة، هذا ما يستشف من مقال الكاتب الجزائري ازراج عمر طرائق إدارة التراث المنشور في جريدة العرب اللندنية بتاريخ 22/5/2015. من يقرأ عنوان المقال يعتقد أن الكاتب بصدد تشريح الموضوع المطروح ومقاربته على نحو يسهم في دراسته، أو يضيف جديداً إلى ما قدّمه جيل من المثقفين والمفكرين العرب في إسهاماتهم من الذين عرض بعض أسمائهم عرضاً عابراً مثل محمود أمين العالم، وحسن حنفي، وأدونيس، وحسين مروة، وزكي نجيب محمود، وأغفل بعضاً آخر له قدم جهداً واضحاً في دراسة التراث العربي وتفكيكه وإعاة بنائه، كلُ بحسب نظرته وتكوينه ورؤيته للتراث مثل المفكر الراحل محمد عابد الجابري وعبد الله العروي وعبد الرحمن طه، والطيب تيزيني ومحمد أركون وغيرهم كثير، بيد أن مكمن الإشكال يتجاوز مجرد العرض المقتضب أو الاستعراض العابر لبعض القامات التي عكفت على دراسة الموضوع والإشادة والتمجيد لإسهاماتها، والتحامل أو التجاهل للبعض الآخر، بقدر ما يدور حول الإضافة النوعية التي تبرر فكرة المقال حتى لا يكون حشواً أو مجرّد رَقْم سواد في بياض دون فائدة، أو اجترار وتكرار ما قيل من قبل. السؤال المهم الذي قد يتبادر إلى ذهن القارئ من البداية هو ما المقصود بطرائق إدارة التراث في عرف الكاتب ورؤيته؟ وكيف يمكن التقريب أو التوفيق بينها من أجل قراءة التراث قراءة جديدة وموضوعية بمعزل عن الإسقاطات والأحكام الجاهزة والعواطف الجوفاء التي لا تسمن ولا تغني من جوع؟ إذا وقفنا مع الاستهلال الذي بدأ الكاتب به مقاله نجد أنه ينطلق من رؤية صحيحة ووجيهة، مبدئياً، في سياق الحديث عن بواعث الاهتمام بالتراث وأهمية قراءته في اللحظة التاريخية الراهنة لما يتأسس على ذلك من مصلحة كبرى تفيدنا في رتق الفتق وتصحيح الخطأ وتعديل القراءة السطحية للتراث، لكن حسن النيات فقط، لا يصنع موقفاً أو ينسف حكماً أو يعدل قراءة؛ ذلك أن قراءة المقال بتمعّن تحيلنا إلى مكامن الخلل في المعالجة والطرح وقصورٍ في الرؤية وعجز، ربما، عن الإحاطة بتفصيلات الموضوع وفواصله المهمة، والاتكاء على أفكار سيقت من قبل، حيث يصرّح الكاتب في آخر مقاله بتأثره بكتابات الكاتب الراحل محمود أمين العالم التي وعى منها ضرورة فهم التراث ضمن شروطه التاريخية، وألا نبحث فقط عن شخصيتنا فيه "لأن الشخصية لا يبحث عنها، وإنما تصنع وتصاغ وتشكل في غمرة العمل والنضال والإبداع. لكن هل يصوغ ذلك تكرار الأفكار أم يحثّ على الابتكار وتقديم طروحات جديدة ومقاربات متماسكة تضيف إلى حقل الدراسات التراثية شيئاً جديداً ومفيداً. يؤكد الكاتب في مقاله حقيقة معروفة ومتجاوزة حينما يعتبر أن النظر إلى التراث كمثال للأنا هو من أكبر وأخطر المشكلات المطروحة على الفكر العربي وأن هذا التوجه هو المسؤول غالباً على إفراز الأصوليات المتطرفة سلوكاً وفكراً، وعلى حجب السبل المؤدية إلى ولادة الفكر النقدي الجذري.والحق الذي لا ينبغي التعويل على سواه أن قضية التراث تمثل إشكالاً عويصاً ومحورياً في الفكر العربي ولم تدرس بعد بما يكفي، بل ظلت، ولا تزال، ضحية تشعّب الميولات الفكرية والمنعطفات المعرفية والأطر المنهجية للكتّاب العرب الذين ذهبوا طرائق قدداً في معالجتها وتباينت وجهات نظرهم فيها. وتأسيساً على ما ورد في تضاعيف المقال يمكن القول بكثير من الاطمئنان إن المقال عبارة عن أفكار مبعثرة خاوية من أية إضافة، ويفتقر إلى الكثير من التماسك، بل لا يعدو كونه مجرد انطباعات سيقت لحاجة في نفس الكاتب، ولا يمكن اعتباره أمراً ذا بال، ويظهر ذلك جلياً في محاولة الكاتب ربط التطرف بطريقة قراءة التراث، وهذا الموضوع وإن كان في ظاهره صحيحاً أو مقبولاً على الأقل، إلا أنه يستدعي، بدل التمادي في تأكيد ما أصبح معلوماً لدى عامة الناس، تقديم طريقة أو طرق، وبخاصة أن المقال يتحدث حسب عنوانه عن طرائق لإدارة التراث، لقراءة التراث وفهمه لمواجهة التطرف بمختلف أشكاله وصنوفه، ونحن نعلم أن ثمة موجة قديمة جديدة، وأقلاماً جاهزة ومسخرة تعمل في الخفاء والعلن بهدف ربط الظواهر المستجدة وذات البعد الديني بالتراث. صفوة القول إن انتقاء العناوين والتلاعب في المضامين لا يجدي نفعاً في تناول هكذا موضوع، بل لا يصوّغ طَرْقه ونقاشه من الأساس، لأن الكاتب في هذه الحالة ينطلق من بنية هشة كمن يبني على الماء أو يمسكه بأصابعه ليبلغ فاه وما هو ببالغه، وبالنتيجة لا يعدو فعله أن يكون مجرد تعبئة أوراق أو ملء مساحات فارغة خالٍ من العلمية والموضوعية.