تنبعث في الغرفة رائحة تشبه رائحة جرذ متعفن، وتبدو صرامة وجه المحقق وكأنها تتوزع على الجدران أيضا، حيث قشور الحائط، وبعض الندوب والفجوات، ولوحة معلقة بدا أنها لذات المدينة، إلا أنها باهتة وتتلون بالأبيض والأسود. ــ اجلس، قال المحقق. جلس الرجل دون أن يرفع حدقتيه، ذلك أنه قد لمح بشعاع عينيه تلك الهالة القاتمة حال عبوره إلى الداخل مدفوعا بيد غليظة. لم تكن جلسته مريحة بالتأكيد، إذ كيف لإنسان أن يستريح في غرفة تحقيق، ولذلك كان يجلس كمن يستعد للنهوض في أية لحظة، ناصبا ظهره، وهازا قدميه اللتين لم تعرفا كيف تستقران على أرضية الحجرة الملساء العارية. قال المحقق: ــ ما الذي كنت تفعله في حديقة الحيوان ليلا؟ ــ أبحث عن سلحفاة. أجاب بعفوية غير مصطنعة. ــ تبحث عن سلحفاة! ــ عن درع سلحفاة بالتحديد. دار المحقق حول مكتبه حتى وصل إلى تلك المنطقة التي يقف عندها الحلاق عادة خلف زبونه، ثم انحنى بجذعه قليلا نحو رأس الرجل، في تلك اللحظة كانت بعض صرامته قد تسربت إلى الجدران واللوحة الباهتة. ابتسم وهو يقف أمام الرجل الرجل الذي كانت ملامحه تتوتر بالقلق، وعيناه تدوران دون أن تستقرا على مكان ما. ــ سكران! ــ لا. أجاب محاولا أن تخرج هذه الـ( لا) كنافية دون أن تجرح كبرياء المحقق. ــ مجنون! ــ ربما، هل تراني كذلك يا سيدي. كان يجيب كتلميذ، ولم يبد على ملامحه تعبير معين يدل على سخرية أو تهكم، وهي اللحظة التي بدأت فيها ملامح المحقق تذهب نحو صورة وجه منبسط وإن بدا مزيفا، فقد تلونت لوحة المدينة المعلقة، وفاحت رائحة قهوة من مكان ما، وتلبس الحائط الخلفي للمحقق لونا بحريا مدهشا! ــ حسنا، ولماذا ترغب في السلحفاة، أقصد درعها! ــ لأتخفى! كان قد أسند ظهره قليلا في تلك اللحظة، وسكنت قدماه، وبدا أنه قد اعتاد المكان قليلا، إلا أن أصابعه بقيت تتعارك وتتشابك رغم أن عرقها بدأ يجف قليلا. ــ لتتخفى، ومم تريد أن تتخفى! ــ .......... كان المحقق قد عاد إلى دوران كرسيه، رفع قدميه على الطاولة، وحرص قليلا أن لا يكون باطن حذائه في وجه الرجل مباشرة. ــ لم تجبني! ــ أخشى أن تكذبني. ــ قل. ــ هناك من يلاحقني! ــ من؟ ــ ظلي. ــ ظلك، هاه! في النهار طبعا! ــ ليس تماما، في الليل أكثر. كان يتخلل الحوار بعض برهات صامتة، مما يمنح الرجل مساحة للتنفس ولقراءة ملامح المحقق وكذلك الجدران واللوحة في نظرات مسروقة. ــ ها هو يرتمي إلى جوارك، أرى أنه مسالم. ــ من يا سيدي؟ ــ من يلاحقك! ــ هذا لا يلاحقني يا سيدي، هذا ليس ظلي، وكان الرجل يلقي نظرة على الظل المرتمي على سطح الأرض العارية، وقد بدا متقوقعا تحت أشعة مصباح السقف الأصفر. فيما يقوم المحقق بسحل عقب سيجارته التي ترمدت على حافة المطفأة وقد نسيها. ــ حسنا، هل تريدني أن أقبض عليه؟ سأله الضابط وقد دار بكرسيه ناحية لوحة الجدار التي عادت للونها القاتم، حيث ظهر مسترخيا وبدا أنه يستعد لاتخاذ إجراء ما! ــ تقبض على أيهما يا سيدي؟ أقصد هذا الذي يرافقني، أم ظلي الذي يلاحقني... يا سيدي؟ في حجرة الطبيب النفسي، كان الرجل يجيب على أسئلة تبدو ساذجة، يحاول أن يقنع الطبيب بأنه ليس مختلا أو به من الجن مس ــ كما يقولون، ولأن الطبيب قد منحه الوقت والثقة، فقد بدأ يحكي: أتعرف يا دكتور: قد يكون بدأ تطور درع السلحفاة، والذي هو بمثابة هيكل معقد، منذ حوالي 260 مليون سنة في فترة ما يعرف بالعصر البرمي. ــ هل سمعت بالعصر البرمي؟ ــ لا، لم أسمع به. ــ لا يهم. المهم أن هذا التطور كان تدريجيا على غرار الهياكل المعقدة الأخرى، ولا يتألف درع السلحفاة حقيقة من مكون واحد فقط، بل من حوالي أكثر من 50 عظمة، وعلى عكس جميع الكائنات الأخرى، تعتبر السلاحف الحيوانات الوحيدة التي يتشكل درعها من التحام عظام القفص الصدري بالعمود الفقري، أما الكائنات الأخرى، فتستخدم قفصها الصدري في عملية التنفس، وقد تمكنت السلحفاة من الاستعاضة عن ذلك بحزام عضلي... ــ قلت إنك لم تسع بالعصر البرمي! ــ ربما قرأت عن عصور أخرى... الحجري، الطباشيري. ــ حسنا يا دكتور. في غرفة التحقيق صفعني المحقق حين قلت إن كل إنسان يحتاج إلى تطوير عموده الفقري على غرار ما فعلته السلاحف. لكن هل أنت متأكد أنك لم تسمع بالعصر البرمي؟ وحين صمت أخيرا ودفن وجهه بين كفيه، كان يحاول أن يكبح أنينا يتنامى كبكاء طفل، وكان الطبيب سارحا في عصور التاريخ، يخربش بقلمه على ورقة فارغة كتب في أعلاها وصفة طبية، يرسم ما يبدو أنه شكل أولي لدرع سلحفاة!