الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: جرت سنَّة الله عزَّ وجل بتفضيل بعض المخلوقات على بعض، قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) القصص:68، فيختار بعض الأمكنة، ويفضّلها على بعض، مثل: تفضيل المساجد على غيرها من الأماكن، وتفضيل مكة المكرمة على غيرها من بقاع العالم، ويختار بعض الأزمنة، ويفضّلها على بعض، مثل: تفضيل يوم الجمعة على غيره من أيام الأسبوع، وتفضيل شهر رمضان المبارك على غيره من الشهور. ومن أسباب هذا التفضيل والاختيار: كثرة الثواب على الأعمال التي تقع في هذه الأمكنة والأزمنة، ومضاعفة الأجر فيها، وكونها موطنًا لتنزل الرحمات والبركات والخيرات من الله سبحانه وتعالى لعباده. وها نحن مقبلون على أحد هذه الأزمنة الفاضلة، وهي ليلة النصف من شعبان: أولًا: الأحاديث الواردة في فضل ليلة النصف من شعبان: وردت عدَّة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فضل ليلة النصف من شعبان بنحو هذا اللفظ: (يَطَّلِعُ اللهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيْعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ). وقد تنازع فيها المحدِّثون على قولين: الأول: تضعيفها، حيث لا يسلم طريق منها من ضعف (1)، وهو قول أكثر العلماء، كما صرَّح بذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي (2). الثاني: تصحيحها، أو تقويتها بمجموع الطُّرق، وهو قول بعض أهل العلم، منهم: الإمام ابن حبان (3)، والمحدِّث الألباني (4). ثانيًا: صوم يوم النصف من شعبان: يسن صوم الخامس عشر من شعبان مجموعًا مع الثالث عشر والرابع عشر باعتباره من الأيام البيض (5)، وكذلك لمن كانت له عادة في الصيام، كصوم يومي الاثنين والخميس، أو صوم ثلاثة أيام من كل شهر، أو صوم أيام من شعبان، فصادف يوم صومه يوم الخامس عشر من شعبان، فإنه لا بأس بذلك. أما صومه مفردًا باعتبار أن له فضيلة معينة، فلا أصل له، بل إفراده مكروه (6)، والحديث الوارد في ذلك ضعيف جدًّا أو موضوع (7). ثالثًا: إحياء ليلة النصف من شعبان بالعبادة: لم يثبت في قيام ليلة النصف من شعبان شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا عن أصحابه رضوان الله عليهم (8). ومن ثم اختلف أهل العلم أيضًا في مشروعية إحياء هذه الليلة بعبادة معينة، كالقيام، والذِّكر، والدُّعاء، ونحو ذلك على قولين: الأول: لا يُشرع إحياء هذه الليلة بأي نوع من أنواع العبادة، سواء أكان إحياؤها جماعة، أو فرادى، فذلك كله بدعة محدثة. وهو قول أكثر علماء أهل الحجاز، منهم: عطاء، وابن أبي مليكة (9)، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة (10)، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم (11)، ونسبه ابن حجر الهيتمي إلى الشافعية (12)، وهذا اختيار الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (13)، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني (14)، والشيخ محمد بن صالح العثيمين (15). وهذا القول قويٌّ وجيهٌ. الثاني: يُشرع إحياء هذه الليلة بالقيام، والذِّكر، والدُّعاء، ونحو ذلك، لكنهم اختلفوا في صفة الإحياء على قولين: الأول: يُشرع إحياؤها على الانفراد من غير جماعة، أو تقيّد بعدد معين من الركعات، أو اتخاذه موسمًا. وهو قول الأوزاعي (16)، والشافعي (17)، والأحناف (18)، وبعض المالكية (19)، وبعض الشافعية (20)، وجماعة من الحنابلة (21)، وهذا اختيار شيخنا شيخ الحنابلة عبد الله بن عبد العزيز بن العقيل (22). وهذا القول مُحتمل، اختاره جماعة من السَّلف، فلا يُنكر على من عمل بمقتضاه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (23). الثاني: يُشرع إحياؤها جماعةً في المساجد. وهو قول خالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم (24). وهذا قول غريب، ومذهب مهجور، أنكره أكثر علماء أهل الحجاز، كعطاء، وابن أبي مليكة، وفقهاء أهل المدينة، وأصحاب مالك وغيرهم، بل ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية (25)، والمالكية (26)، والشافعية (27)، والحنابلة (28) إلى بدعية الاجتماع لإحياء ليلة النصف من شعبان، وكراهية ذلك، سواء في المساجد، أو في غيرها، ونصُّوا على أنه ينبغي للأئمة وولاة الأمر المنع منه (29). رابعًا: بدع النصف من شعبان: هذه جملة من البدع المتعلقة بالخامس عشر من شعبان: 1. اتخاذه موسمًا شرعيًّا (30)، وإظهاره مثل ما ثبت من شعائر الإسلام، كصلاة الجمعة، والعيد، وصلاة التراويح (31). 2. الاعتقاد بأن ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة، وتنسخ فيها الآجال والأرزاق، وأنها الليلة المباركة في سورة الدخان: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)، ونص القرآن الكريم أنها ليلة القدر في رمضان (32). 3. الاعتقاد بأن ليلة النصف من شعبان مثل ليلة القدر في الفضل (33). 4. إحياء ليلة النصف من شعبان بصلاة القيام جماعة في المساجد أو غيرها، والاجتماع فيها للقصص، والدُّعاء، والذِّكر (34). 5. إحياء ليلة النصف من شعبان بعدد معين من الركعات، وبصفة خاصة في هذه الليلة، كصلاة الألفية، وصفتها: أن تقرأ سورة الإخلاص عشر مرات في كل ركعة، وعدد ركعاتها مائة ركعة، فيكون المجموع قراءة هذه السورة ألف مرة، والحديث الوارد في شأنها لا شك أنه موضوع (35). 6. تخصيص يوم الخامس عشر من شعبان بالصوم (36). 7. تخصيص صلاة العشاء ليلة النصف من شعبان بقراءة سورة يس (37). 8. تخصيص ليلة النصف من شعبان بدعاء يسمى: دعاء ليلة النصف من شعبان ، وربما شرطوا لقبول هذا الدعاء قراءة سورة يس، وصلاة ركعتين قبله (38). 9. تخصيص ليلة النصف من شعبان بزيارة القبور (39). 10. التصدق في النصف من شعبان عن أرواح الموتى (40). 11. إيقاد النار والشموع ليلة النصف من شعبان (41). وقد فسَّر بعض أهل العلم لفظة (مشاحن) المذكورة في أحاديث ليلة النصف من شعبان: بأهل البدع (42)، فهم محرومون من فضيلة هذه الليلة ببدعهم، ومحدثاتهم، وخرافاتهم.