التيه في مسالك الأيام النائية أنا راشد، الذي نسي أن يعدد أيامه لحظة موته الأول، مثلما يفعل الحنش المقتول حديثا؛ يظل يعدد أيامه إلى أن يدخل رحلة سكونه الأبدي.. بانقضاء شهر سبتمبر من هذا العام 2013م يكون قد مضى على أول موت لي ستة وعشرون عاما بالتمام، هل تراه بإمكاني أن أعدد أيامي الآن؟ أعددها أم أعدد المرات التي متها؟ ماذا يفعل المرء أمام كثرة المشاغل التي تسرقه من نفسه؟ تسرق أيامه أمام عينيه، حتى دون أن تدع له فرصة ليعددها. لم أكن على موعد مع الموت يوم تخرجت من الجامعة، وعدت إلى قريتي امصافية (اليوم أصبحنا نقول الصافية).. في اليوم الثاني من عودتي التقيت بصديق طفولتي فيصل.. أول يوم عرفت فيه فيصل هو أول يوم عرفت فيه قريتنا المدرسة، لقيته في المدرسة، فأصبح صديقي وزميل دراستي إلى نهاية الإعدادي.. كاد فيصل يطير فرحا حين رآني، أنا أيضا فرحت بلقائه، لكن فرحته العارمة اجتاحتني، حتى أنه أصر على أخذي معه إلى قريته الصغيرة، موقد امجنون، اعتدنا على اختصار اسمها المركب؛ فمرة نطلق عليها اموقد، ومرة امجنون، هذه القرية كانت محشورة وسط الغابات الكثيفة خلف وادي دهوان، لكنها أصبحت اليوم قرية مكشوفة؛ بعد تسكع المجنزرات حولها، وفي أطرافها، انكشفت، وأصبحت ترى من بعيد، كأي قرية تطل على مساحات شاسعة من المستطيلات الجرداء. بعد جهد جهيد وافق فيصل على أن يتركني ويمضي بدوني، بعدما وعدته أن ألحق به، وأتناول الغداء عنده. وصلت امجنون بعد صلاة الجمعة، فوجدت مجلس فيصل مكتظا بالمدعوين، وبعضهم ما زالوا يتوافدون.. أكثرهم أراهم لأول مرة، حتى أولئك الذين عرفوني قد تغيرت علي ملامحهم، فبدوا لي كالغرباء، لكن ذلك كله لم يكن مفاجئا لي، المفاجأة الحقيقية التي أذهلتني، وأخرست كل من كان في المجلس؛ أن فتاة جميلة جدا دخلت علينا فجأة؛ جامحة كفرس، شديدة البياض، لا تشبه بنات القرى، حسبتها -للوهلة الأولى- واحدة من أولئك الجميلات اللاتي لا نراهن إلا في التلفزيون، سفورها، جمال الطاغي، ملابسها، تسريحة شعرها، وقفت هكذا متبرجة في باب المجلس، وراحت تحدق في وجوهنا المشدوهة، بجرأة لا تعرف الحياء. لم يكن أمام الضيف المرتبك إلا أن يخفض بصره إلى الأرض.. لم أرفع بصري إلا حين سمعت الفتاة تنادي باسمي، راشد.. حملقت في الحاضرين؛ عل فيهم من اسمه راشد غيري، لكن صوتها علا، واحتدت نبرتها وهي تشير إلي بيدها: أيوه أنته.. قم.. تجي وإلا أدخل لك؟ ما الذي يحدث أمامي؟ أظنني قلت هكذا!! تلفت حولي مبهوتا.. لا أدري إن كنت وقتها أبحث عن فيصل، أم كنت أستجدي تدخلا من الحاضرين.. بالتأكيد هناك التباس، لكن هذا التأكيد تبخر قبل أن أتشبث به، لأن أحدا منهم لم يتفوه بكلمة. هيا قم.. تعال، عجل. أنا؟ أيوه قم، عجل.. لا تخليني أدخل لك!! لم تمهلني، كان علي أن أقرر بسرعة؛ إما أن أقوم إليها، أو أدعها تدخل هي.. رأيت أن الدهشة قد عقدت ألسنتهم.. وأمام إصرارها، قمت إليها مترددا، بل مثقلا بالبلاهة والحرج، وقبل أن أصل إليها، تناولتني، جذبتني نحوها بقوة، ثم ألقت برأسها في صدري، وراحت تشمني وقد انخرطت في بكاء حار، زلزلتني أنفاسها وتأوهاتها.. ولم أعرف أنها غصون إلا حين قالت: وقدرته تعيش كل هذي المدة بدوني؟ عندها فقط فر النهار والناس من بين عيني، وانبعثت من داخلي وفي خاطري نهارات أخرى، مختلطة بالغبار والمطر والأغاني المفتوحة على السماء، كل الأيام التي لم تكن تشرق بغير وجه غصون عادت، وعادت الحقول أدراجها نحوي حتى غدت كلها بين يدي، شمسها وغيومها، مطرها وقيظها، وكل انشراح لياليها، أشياء كثيرة راحت تدور من حولنا.. غصون كلها هنا الآن، لكأن الأرض قد توقفت لحظة لتستأنف دورانها، ولكن في الاتجاه المعاكس. بالكاد انتبهت للوجوه المحدقة فينا، قلت وأنا آخذها إلى خارج المجلس: غصون!! من فين، ومتى، وكيف؟ يااااااااه.. عشر سنوات؟! ونحن نمشي ملتصقين، رفعت غصون رأسها، وصعدت عيونها الغارقة في وجهي، وبذات الطريقة الجميلة التي تخرج بها راءاتها قالت: عشر سنوات واربعه شهور. ومتى يا عيون راشد جيتي من الشرقية؟ لي أسبوع هنا.. ومن ليلة ما وصلت، وأنا أقول لشمعه خلي زوجك فيصل يجيب راشد بأي وسيلة، إن كان في السما ينزله، وإن كان تحت الأرض يبعثه. لم تكن غصون تعرف أن الزمن قد تغير، أقصد أهل القرى وعاداتهم، لم تصدق أن شمعه قد أصبحت تتحجب مني، بل ضحكت بهستيريا حين حاولت التخلص من يدها وهي تجرني إلى الداخل؛ إلى حيث تجلس شمعه، وحين نهرتها بصرامة طالبا منها أن تعقل وتعي أنه حرام، ولا يجوز لي أن أدخل على زوجة فيصل، صبت جام غضبها على الزمن الذي غيرنا، وعلى التعليم الذي بدل طباعنا، وعلى التمدن الذي عرفناه، وحتى الكهرباء لم تسلم منها. عرف فيصل الذي حضر على صوتها المحتد أنه لم يعد لدي وجه أعود به إلى مجلسه، فأخذني إلى مكان آخر في منزله، ثم نظر إليها وهي ما تزال ممسكة بيدي وقال: يا أم راشد فضحتينا الله يفضحك، تحسبين نفسك عادك في امصافيه زمان، ترين كبرنا وتغيرنا والحياة اختلفت. راشد ابنها الذي كنت اقبله واحتمل شقاوته مجامله لها.. لم يكن يشبهها، لم يكن في ملامحه شيء مما رسمناه ذات مساء على ضفاف الوادي، غصون نفسها لم تكن تشبه غصون، حتى رائحتها لم تعد رائحة ذلك الحلم المفعم بضحكاتنا وأدمعنا، كنت أحاول عبثا اللحاق بركب عينيها المحلقتين في عبق الماضي. أخذ صوتها يتلاشى شيئا فشيئا، فيما كانت نظراتي تغوص في ملامحها؛ بحثا عنها، غابت غصون وهي بين يدي.. كنت انتزع أنفاسي من نظراتها المتلهفة لراشد امصافيه، أحسها كصعق كهربائي يضرب قلبي، عل نبضاته تعيد النظر، علها تعيدني إليها. حتى أنا -طيلة ذلك النهار وتلك الليلة- لم أكن أشبهني، كنت غريبا عني، كنت غارقا في تفاصيل غصون التي كانت تتموج بها ذاكرة أم راشد؛ وهي تجتر ذكرياتنا، بدوت أمام نفسي ثقيلا، وأحيانا تافها، ولا أدري كيف احتملت نفسي إلى منتصف الليل، كنت اختلس النظر كثيرا إلى ساعتي في انتظار الثانية عشرة ليلا، وقبلها بدقائق طلبت منها أن تعيد راشد إلى بيتهم، ولأنني أكره لحظات الوداع، انتهزت فرصة خروجها وخرجت من حياتها، بل خرج كلانا من الحياة للأبد. لم تكن غصون تعرف أن هذا اليوم هو آخر يوم في أعمارنا، لو أنها تعرف ما تبعتني إلى وادي دهوان منتصف الليل.