شغلت نظرية الالتزام في الأدب المثقفين العالميين والعرب في القرن العشرين. وكان أدب الفيلسوف الوجودي اليساري جان بول سارتر ورفيقة دربه وفكره سيمون دو بوفوار، من منابع الإلهام للمثقفين والمبدعين في مجالات النقد والأدب بفنونه المختلفة. بل كادت تصبح تقليعة ولوثة أيديولوجية عند كل متفلسف وجودي (متياسر)؛ حتى لا يُطرَد من ملكوت الأنظمة الاشتراكية التي (تياسرت) باعتماد الأدب الأيديولوجي. رغم أن الاشتراكية العربية، بحسب المفكر اليساري غالي شكري، هي رأسماليةُ دولة! ومن الأسئلة الكبرى التي طرحها سارتر في كتابه (ما الأدب) ماذا نكتب؟ ولمن نكتب؟ وكيف نكتب؟ فدارت المعارك الفكرية بين المثقفين حول الأدب الملتزم والمعادلة الصعبة بين الهدف الإنساني النبيل والنزعة الجمالية الفنية الرفيعة، وبين الأدب المُلزَم؛ أدب المنشورات الحزبية الذي يفتقر إلى الإبداع الفني الجمالي، بين الفن للفن، والفن للحياة، والفن للفن والحياة معاً. الأدب كما يقول تودوروف: «ليس لعبة لغوية، إنه ثراء للإنسانية. وإذا كنا لانزال نقرأ أعمالاً لكتّاب من الماضي، فذلك لأنهم يعلموننا شيئاً عن وجودنا البشري». الأديب ليس بهلواناً بلاغياً. ليس مهرّجاً في بلاط السلطة يُضحِك السلطان على عرشه، وهو يقضم تفاحة حمراء بلون الدم، ثم يأمر وزيره السيّاف بإلقاء كيس من الدنانير في حجر الشاعر المنافق؛ كيس هو ثمنه البخس! قلم الأديب المُلزَم بوق نحاسي صدئ ينفخ فيه النافخون ما يشاؤون عبر حنجرته المأجورة الأوتار! وقلم الأديب الملتزم صُورٌ مقدّس يعلن القيامة في وادي الموتى، وليس بوقاً... يميت الأحياء! في كتاب (مع الشعراء) لزكي نجيب محمود فصل ممتع عن العقّاد، وفيه سطور بليغة عن وصف ذلك العملاق الصلب صلابةَ أحجار الغرانيت في موطن رأسه (أسوان). يقول: «كان العقاد إنساناً ترفّع عن الرياء، فما رأيته مرة واحدة يتزلف إلى صاحب منصب أو جاه أو ثراء. لا يمالئ قراءه. يكتب لهم ما يحب هو أن يكتبه، لا ما يحبون هم أن يقرأوه». وجملة «ما يحب هو» لا تعني الكتابة النرجسية الذاتية الهزلية العبثية. (هو) ليس ضميراً منفصلاً، بل متصل، يثري ثقافتنا ويعلمنا شيئاً جديداً عن وجودنا البشري، كما قال تودوروف. في مجلة الكفاح العربي البيروتية مقالة لأدونيس (6 مايو- أيار 1984) عنوانها «تسألني: من أنت أيها الشاعر؟ وأسألك: من أنت أيها القارئ ؟» ناقش قضية الأزمة بين القارئ والشاعر الحديث. وهوعنوان يذكّرنا برد أبي تمام، الشاعر الحديث في عصره، على أبي العُميثل عندما قال له: لمَ يا أبا تمام تقول ما لا يُفهَم ؟ فأجابه: ولِمَ لا تَفهم ما يقال؟ يقول أدونيس: «كيف نُخرج القارئ العربي مما تعوّد عليه، وكيف نقنعه بألّا ينتظر دائماً من الشاعر القصيدةَ التي تقول له ما في نفسه، بل أن ينتظر، على العكس، القصيدة التي تخرجه مما هو في نفسه، إلى أفق آخر...». الكتابة إبداعُ صدمة، بل صعقة جميلة! تحريضٌ إيجابي. قرعُ أجراس في كهوف الصمت والغيبوبة، وليست استجداء لمشاعر القارئ. هذه هي رسالة القلم الذي كان قسَماً إلهياً: «ن والقلم وما يسطرون...». * كاتب سوري