... أرى أن الصورة المستقبلية للكويت- المرسومة في رواية «فئران أمي حصة»- صورة مبالغ فيها، فالشعب الكويتي على الرغم من تأجج الصراع لم نره مجتمعا عنيفا بهذا الشكل المخيف الذي رسمه السنعوسي، من هنا أجد الفكرة المستوردة من خارج السياق الخليجي، فكرة لا تتطابق مع الوضع الكويتي. وهو ما يعرض له ادوارد سعيد في أحد أبحاثه عن النظرية المسافرة إن النظرية تنتقل من مكان لمكان، ولكن لا يشترط أن تنطبق على المكان المنقولة إليه لاختلاف الظروف الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، فاستعارة ما يحدث في الخارج لا يشترط أن يكون دقيقا ومعبرا عن واقع الحال في الكويت. لذا الوعي السياسي الحاد كان مطلوبا في هذا المقام. من الأمور المهمة- والتي لا بد من مساءلتها في الرواية- هي قضية الحذف لفترة تاريخية مهمة تعد حلقة الوسط بين ماحدث في الماضي ومايحدث في المستقبل، فهناك حقبة سياسية تاريخية مهمة تم حذفها من الرواية هي حقبة الحاضر المزامن لفترة كتابة الرواية، تطرح سؤالا مهما ما الذي يحدث الآن وسيصنع هذه الصورة المأساوية للكويت، لم حذف المؤلف هذه الفترة؟ وهل أصبحت الكتابة عن الحاضر بضبابية أمرا مؤرقا للكاتب العربي، بينما كتابة الماضي وسرد المستقبل أقل تبعة سياسية واجتماعية؟ وهو ما ألمح لها المؤلف/ السارد بذكاء في بداية رواية «إرث النار» ليبرر للقارئ الغموض الموجود في الرواية، بقوله: «فرغنا من تصميم غلاف روايتك (إرث النار). أنصح بحذف أربعة فصول. هذا من أجل سلامتك، ومن أجل مصلحة الدار». (الرواية، ص 20).لاشك إن الكاتب وقع في هذه النقطة بفخ نوعية معينة من القراء، هم السياسيين الحاليين، وصانعي الحياة السياسية، أراد حذفهم من السرد رغبة في السلامة، لأنه يعي جدا مايحدث في الساحة الكويتية الآن، أيضا الحاضر دوما يشوبه غموض وجهل تنتظر من المؤلف الأدبي و كاتب التاريخ مسافة زمنية، قد تكون هي المسافة التي انتظرها السنعوسي، وربما كشف عنها في المستقبل، في كتابة أخرى.حفريات تاريخ الطائفية: قامت الرواية بسرد تاريخي زمني متسلسل في رواية الثأر، عرض تحول علاقات المجتمع الكويتي من أطياف متعددة، سنة وشيعة، وحضر، بدأت من صورة التلاحم والتمازج بين النسيج الاجتماعي الكويتي، لدرجة إن الأهل يتركون ابنهم عند جارهم ويسافرون، والأبناء ينادون الجدات وكبيرات السن بـ «يمه» مما يرصد للترابط الحقيقي بين المجتمع، فيكون أبناء الحي أسرة واحدة، وهذا استدعاء لهذه القيم المجتمعية المهمة، والتي لا أعتقد بانتهائها بل خفوتها، بسبب الدخول في الحياة العاملة، بحيث أصبحت الغالبية العاملة تقلص علاقاتها مع الآخر، بحكم الانشغال وينغلق على ذاته في بيته وشؤونه الخاصة. هذه العينة المجتمعية عاشت في ألفة حتى اختلف شكل العلاقة من علاقة جيران، إلى علاقة نسب بين أهل فهد السني، وحوراء الشيعية. وقراءة التغير في العلاقة، تدل على إنه ما إن يحاول المجتمع أن يتمازج تمازجا حقيقيا من خلال الزواج، حتى تبدأ الهوية في الاستنفار والدفاع عن نفسها، واستمرارية نسبها الصافي المحافظ على تشابهه من دون اختراق الآخر المختلف والنقيض لهويتها الطائفية، لذلك لم يمر الزواج من دون منغصات كثيرة، لولا إن قصة الحب بينهما جسرت هذه الفجوات بمشقة. الوساطة نجحت في عقد القران، ولكنها لم تفلح في حل المشكلات السوسيو- ثقافية العميقة بين الطائفتين، بدءا بعقد القران على أي مذهب، وتسمية الطفل على معاني سيميائية مترابطة مع الإرث الشيعي- أم السني. نجد الطفل يموت كدلالة متشائمة من الكاتب على انعدام التمازج بين السني والشيعي من خلال موت ثمار هذه العلاقة ونهاية بقتل صادق الشيعي لفهد السني. ولنلاحظ إن القاتل هو الشيعي، مما يرصد بعدا أيديولوجيا خفي يطرحه الكاتب، بأن الشيعي يقتل السني، بينما السني مسالم بريء، تمتزج مع الخوف الكامن في الوعي الكويتي السني من سطوة المد الشيعي المدعم بسطوة إيران السياسية. فعلى الأدب أن يكون حذرا وهو يدخل في هذه العوالم الشائكة من التمثيلات للآخر. من القضايا المهمة التي تطرق لها المؤلف بذكاء هي قضية الانتماءات الخارجية، مثل زينب الجدة العراقية، والتي مرت بعد الغزو بمعضلة في التواصل مع العالم الخارجي الكويتي، حيث أعتبر العراقي الصديق القديم الحميم الذي نرتبط معه بعدة أواصر، تجلت بالأغاني وبالمصاهرة، وغيرها من روابط وعلاقات، انتقل إلى العدو الجديد الذي اضطر أن يغير ويعدل في هويته أمام الآخر ناسبا إياها إلى الصديق المانح السعودي، ويبتعد عن اللهجة العراقية وهي لهجة خالطت روح هذه الجدة المسكينة التي لعبت السياسة بهويتها وانتمائها وأصبحت تحمل صفة المتهم، مثلها مثل الفلسطيني الذي لبس هوية السوري، لأنه أصبح محكوما بموقف السياسي الفلسطيني المناصر لسياسة صدام حسين. أن تغطى الهوية والانتماء هذا يعني إن المجتمع الكويتي بحساسية ساذجة يلغي التعامل مع قضايا الانتماء بشكل راديكالي عميق ويلجأ للتسطيح، بدلا من الوعي العميق بهذه الإشكالية، التي حلها الزمن، على استحياء، بعد عشر سنوات. تطورت إشكاليات الهوية في الرواية وتنقلت من الترابط والتلاحم، وانتهت بالتقاتل بين الأصدقاء فهد وصادق، مرورا بأحداث سياسية عدة رصدها السرد، من مثل تأتبين مغنية، وغيرها، وصولا لما حدث في النهاية، على مدار حياة الشخصيات، أو في الجو الخارجي المحيط لها، فأنتج لنا طاعون التعصب والطائفية هويات قاتلة. استدعاء وحفظ ذاكرة الماضي: إذا كنا نبحث عن القضايا الفكرية المهمة المسيطرة على الرواية، فهي تنقسم إلى خطين متداخلين لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، الأول هو خط انقسامات الهوية الكويتية المتعقبة زمنيا منذ فترة الثمانينات حتى 2020م. الثاني: هو استدعاء ذاكرة الماضي في ما قبل الغزو وبعده، الذاكرة الاجتماعية والسياسية، وهو رصد مستقصي لتفاصيل عديدة، أعادتنا لهذا الزمن الماضي بجمالياته الكثيرة الحميمية، من ذاكرة فنية حاملة لأغاني وطنية، وعاطفية، ومسلسلات من مثل «على الدنيا السلام»، الذي يعد عنصرا مهما انتقل من الاستدعاء العادي، إلى المكون في قراءة رؤية المؤلف الضمني للنص، «على الدنيا السلام»، للتأسف على ما آلت إليه الأمور في نهاية الرواية. فالرواية سجلت صورة حية للكويت في الحقبة الزمنية الممتدة إلى أربعين عاما، حفظت وأرشفت هوية المجتمع ومايشغله اجتماعيا وسياسيا في هذا الزمن الممتد، وقد ابتعدت عن رصد البعد السيكولوجي للشخصيات، والدخول إلى عوالمها الذاتية. هذا الرصد والاستدعاء لكويت الماضي يضيف إلى ما قدمه المنجز الروائي في الكويت في الخمسة أعوام الأخيرة: بدءا من رواية «في حضرة العنقاء والخل الوفي»، و «الطير الأبابيل» للحمادي، و «الصهد» لناصر الظفيري، وكـ «اللولو» لحياة الياقوت. إذ شكلت الذاكرة المستدعاة موضوعا مهما في السرد الكويتي في الفترة الأخيرة. أهم أعمال الذاكرة، سرد يوميات الطفولة، التي رصدتها الرواية، مع تعالقها مع تفاصيل حكايات الجدات، ومن اللافت للنظر الترابط الحميمي بين جيل الجدات، وجيل الأحفاد أكثر منه مع الآباء والأمهات، فالجدة مستودع حكايات الماضي الشفهية، والمؤلف يعنون الرواية «بفئران أمي حصة». رغم هذا الارتباط بالجدات، كمصدر للتاريخ الشفهي، فإنه بموتهن تنقلب الحياة وينتهي الترابط، فهل هذا دلالة على موت القيم الروحية التي حفظتها لنا الجدات؟ كما يرتبط بأمر آخر: لم لم تحافظ الأجيال التالية لهن (الآباء والأمهات) على هذه القيم، فصورة الآباء ممسوخة، ليسوا فاعلين بشكل جيد، ولم ينقلوا قيم الماضي الإيجابية، ويحموا أبنائهم من الإنحراف، حتى أم السارد وأبيه كانا حاضرين بالسرد ولكنهم غائبان بنفس الوقت فما هو دورهما، إذ كان حضورهما سطحي في الرواية من دون تبرير له.