كان ولا يزال للمقاهي الثقافية دور فاعل في إنعاش الحراك الأدبي، وقد عرفتها مختلف عواصم العالم وإن كانت باريس هي التي اشتهرت أكثر من سواها في هذا المجال. ففي أربعينات القرن الماضي كان مقهى كافيه دي لمور الذي اقترن اسمه بأبرز مثقفي فرنسا كسارتر وكامو وبرافوار، إضافة إلى المغنية إديث بياف عنواناً ثقافياً بامتياز. وهناك مثقفون كتبوا أعمالهم في الطابق الثاني من المقهى. أما عالمنا العربي فقد اشتهرت فيه المقاهي الجاذبة للمشتغلين في الثقافة بدءاً من بيروت والقاهرة حتى بغداد ودمشق والمغرب. ففي بيروت تردد اسم مقهى الهورس شو في العديد من الأعمال والسير الذاتية، وكذلك مقهى فيصل والعم سام قرب الجامعة الأمريكية. أما القاهرة فرغم كثرة عدد مقاهيها برز اسم مقهى ريش منذ قرن. واستضاف المقهى على موائده وعلى جدرانه أيضاً صور الراحلين من رواده وفي مقدمتهم نجيب محفوظ الذي كان يعقد ندوة أدبية في المقهى ويتحلق حوله العديد من الكتاب والصحفيين والقراء. على جدران مقهى ريش عشرات الصور بالأبيض والأسود لمن رحلوا من أبرز مثقفي مصر عبر ثلاثة أجيال على الأقل. ولأن موقع المقهى في قلب العاصمة بل في سرتها على بعد أمتار من تمثال طلعت حرب، فقد اجتذب أيضاً الزائرين والسياح، لأنه كان يثير فضولهم بالصور التي تغطي مدخله وهي كما أطلق عليها صور المحروسة في مختلف العصور، والمقصود بالمحروسة مصر، وفي الطابق السفلي من المقهى ثمة مطبعة بدائية تعود إلى ثورة عام 1919، كما أن لهذا الطابق باباً سحرياً كان يهرب منه الناشطون أثناء مداهمة الإنجليز للمقهى. أخيراً أغلق ريش أبوابه بعد رحيل آخر من امتلكوه ودافعوا عن بقائه رغم محاولات العقاريين نزع صفة المقهى الثقافية وتحويله إلى مجرد مقهى لتدخين النراجيل والثرثرة. إغلاق ريش خسارة ثقافية ورحيل صاحبه الذي طالما دافع عن بقائه ترك رجاء واحداً فقط هو اهتمام الدولة ووزارتي الثقافة والآثار بهذا المكان الذي تحول إلى زمان، بعد أن مهرته أصابع رواد من المفكرين والساسة والأدباء. لقد غيرت موجات التحديث الكثير من مظاهر حياتنا خصوصاً ما كان منها على صلة بالتراث والتقاليد، فتغيرت تبعاً لهذا الإعصار التكنولوجي المقاهي والأندية والأمكنة ذات الذاكرة لصالح مستجدات تجارية محكومة بثنائية الربح والخسارة فقط. في الغرب يثور المثقفون ويتظاهرون ويقيمون الدنيا إذا تعرض أثر ثقافي للهدم أو استبدال الوظيفة. لكن واقعنا العربي في هذه الآونة الحرجة بالذات يصعب أن نتوقع منه ذلك. منصور