شهد العالم العربي خلال حقبة الاستقلال الوطني أنظمة للحكم بدت مهابة قوية امتلكت المال والنفط والسلاح وسيطرت على التعليم والإعلام والمثقفين ورجال الدين وظلت تؤكد طوال الوقت أنها تحقق إنجازات وانتصارات غير مسبوقة. وعاشت هذه النظم، عراق صدام حسين وسورية الأسدين (الأب والابن) ومصر مبارك وليبيا القذافي ويمن علي عبدالله صالح، أعواماً طويلة مستقوية بإرهاب الاستخبارات وأجهزة الأمن الداخلي وتضليل الإعلام وتهميش وقمع الخبراء والنشطاء السياسيين والمثقفين المخلصين للأوطان، تتبنى خططاً شكلية للتنمية وتكرس نظم تعليم تقليدية متردية، وتحيط بها مواكب الانتهازيين والمنافقين. ولم تنتبه هذه النظم إلى انحدار مجتمعاتها نحو الهاوية فقراً وإفلاساً وهبوطاً مزرياً في الأوضاع المعيشية وتجريفاً سياسياً وثقافياً وتغييباً للعقل الجمعي. وتراكمت أخطاء الحكام، ما أسفر عن اتساع مساحات الفقر والإفقار السياسي والثقافي، الأمر الذي أدى إلى تفاقم واستفحال التحديات المصيرية التي تواجه مشروع النهضة العربية والتي لم تعد تقتصر على غياب الديموقراطية وتنمية التخلف وتعميق التبعية للسوق العولمية والإغفال المتعمد للعدالة الاجتماعية. بل أدت إلى تعثر الاستقلال الوطني بالإصرار على ترسيخ التغلغل الأجنبي والأميركي بالتحديد من خلال إضفاء الشرعية على الوجود الأجنبي على الأرض العربية، الأمر الذي أطاح إمكانات تحقيق الأمن القومي العربي وضمن استمرار التراجع الحضاري. والأخطر شيوع الاتجاه إلى تصفية القضية الفلسطينية على أساس الأمر الواقع، باستمرار الاتفاقيات (كامب ديفيد وأوسلو) التي تعبر عن سلام الإذعان وغلبة منطق المساومة على حساب منطق المقاومة، وما ترتب على ذلك من تعاظم دور إيران وتركيا في النظام العربي، فضلاً عن تنامي المصالح القُطرية على حساب الأمن القومي العربي. ويضاف إلى هذه الأوضاع المأزومة ما يشهده العالم العربي حالياً من استنزاف القدرات الاقتصادية والبشرية في الحروب الإقليمية ما يهدد الوجود العربي ذاته. ويشير الواقع العربي الراهن إلى أن الدولة القُطرية أصبحت عبئاً على نفسها فلم تعد قادرة، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، نفطية أو غير نفطية، على الاستمرار في ظل استقوائها بالخارج واعتمادها على الأمن البوليسي لحماية أوضاعها الداخلية التي أصبحت مهددة باستفحال المشكلات. لكن تجاهل البُعد المجتمعي ومتطلباته الملحة سيؤدي إلى انهيار وتردي الضلع الثالث من المثلث الذهبي للأمن القومي بمعناه الشامل قُطرياً وقومياً. فإذا كانت الضرورات الإقليمية والدولية تفرض أولوية وجود جيوش عربية مؤهلة عصرياً لحماية حدود الأوطان وحقوقها الإقليمية والدولية وكذلك تفرض ضرورة وجود أجهزة أمن داخلية كفؤ وقادرة على حماية وضمان استمرار هذه النظم، إلا أن باقي أجزاء الجبهة الداخلية تظل في حاجة إلى تأمين ورعاية وضوابط. وأعني بها تأمين حقوق الجموع العريضة الكادحة من المواطنين العرب كي يتحقق الاستقرار الفعلي، وإعادة النظر في الأطر التشريعية التي تشجع رأسمالية المحاسيب واحتكار الثروات العربية في أيدي النخب الحاكمة وأنصارها من المنتفعين. ومواجهة هذه التحديات تتطلب استراتيجيات ورؤى عقلية ومناهج عمل مغايرة تراعي حقوق المواطنين العرب باعتبارهم شركاء أساسيين في صنع مستقبل أوطانهم. والبديل الوحيد المتاح لانبعاث مشروع نهضوي وحدوي عربي نابع من الواقع وضروراته، وليس مفروضاً من الخارج، يكمن في التعاون بين الدول العربية ثقافياً وصناعياً وزراعياً وتجارياً. ولن يتحقق ذلك إلا بالسعي الجاد لإعادة هيكلة «بيت العرب»، أي الجامعة العربية بتفعيل أهدافها المؤجلة وتزويدها بالكفاءات العربية الشابة القادرة على تجاوز الواقع العربي الراهن من خلال رؤى مستقبلية بديلة، لأن البديل الآخر، أي استمرار الوضع الراهن، سيقود حتماً إلى مواجهة خطر الانفراط والتفكك من الداخل للدول القطرية وهذا هو الخطر الحقيقي الذي يهدد مشروع النهضة العربية في الصميم. إن التاريخ العربي أنهى مرحلة كاملة من النضال من أجل الاستقلال الوطني، لكن الزمن القادم بمتغيراته وتحدياته يحمل توقعات غير سارة للنظم الحاكمة التي أدمنت الاستبداد والخضوع لإملاءات ومصالح الغرب وإهمال حقوق الجموع العريضة من الشعوب العربية وستنهض الأجيال الجديدة بالوعي والإرادة الجماعية لاسترداد ما أهدرته الحكومات العربية خلال حقبة الاستقلال الوطني.