"وقال ربكم ادعوني أستجب لكم" (سورة غافر: الآية 60)، فالدعاء يصل الخلق بالخالق، ويعبر عن إيمان عميق بأن هناك إلهاً قديراً على كل شيء، بيده الأمر كله، يقدم المساعدة لمن يطلبها وفى أي وقت . . بابه مفتوح لا يغلق في وجه أحد مهما عظم أو صغر . . نلجأ إليه في كل وقت وخصوصاً في الشدة . . ولكن كيف يكون الدعاء؟ فالدعاء له آداب وشروط حتى يتحقق . . ولن نجد خيراً من الأدعية التي دعا بها الأنبياء، عليهم السلام ربهم، والتي وردت في القرآن الكريم، وفي صحيح سنّة المصطفى، صلى الله عليه وسلم . ولقد مر الأنبياء بمواقف صعبة لم ينقذهم منها إلا صدق دعائهم، حيث كانت لهم في هذه المواقف أنبل الكلمات وأجمل الألفاظ التي تجسد حسن التوسل ومناجاة الله وحده، ومن خلال هذه الحلقات نتعرف إلى المواقف التي تعرض لها الأنبياء الكرام وإلى الأدعية التي دعوا بها ونتعلم كيف يكون الدعاء . "لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِني كُنْتُ مِنَ الظالِمِينَ" (سورة الأنبياء: الآية: 87)، لم يكن يونس عليه السلام يدري أنه سوف يلقى هذا القدر من الأهوال وهو يفر من بلدته بعد أن توعد قومه بالعذاب لكفرهم وعدم انصياعهم لأوامر الله عز وجل . . لكن نعود إلى الوراء قليلاً لنتعرف إلى ما حدث لنبي من الأنبياء الذين ورد ذكرهم أكثر من مرة في القرآن الكريم هو يونس بن متى عليه السلام من بني إسرائيل ويتصل نسبه ب (بنيامين) أحد أولاد يعقوب وأخو يوسف الصديق عليهم جميعاً السلام . أرسله الله سبحانه وتعالى إلى أهل نينوى من أرض الموصل بالعراق، وراح يعظ أهلها وينصحهم بالخير ويذكرهم بيوم القيامة ويخوفهم من النار ويأمرهم بالمعروف، لكنه لم يلق منهم إلا آذاناً صماء وقلوباً غلقاً . وظل سيدنا يونس ينصح قومه فلم يؤمن أحد منهم، فضاق بهم ذرعاً وأحس باليأس من قومه وامتلأ قلبه بالغضب عليهم لأنهم لا يؤمنون وخرج مقرراً هجرتهم . توعد بعذاب أليم يقول صفوت جودة أحمد في كتاب "الأنبياء في القرآن الكريم" كان أهل "نينوى" من أرض الموصل، رهطاً كبيراً يزيد على المئة ألف نسمة قال تعالى: "وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ" (سورة الصافات: الآية 147)، وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله يونس إليهم نبياً يدعوهم إلى الله عز وجل يحبب إليهم الإيمان ويزينه في قلوبهم، فأقام على ذلك تسعة أعوام كاملة، لكنهم أصموا آذانهم وأصروا على كفرهم وعنادهم، لا يطيعون نبيهم ولا يستمعون لنصحه، وطال الأمر بين نبى الله يونس والقوم فغضب النبي وخرج من بينهم وهو يتوعدهم بحلول العذاب بهم، ولم يكن الأمر الإلهي قد صدر له بأن يترك قومه أو ييأس منهم، وظن يونس أن الله لن يوقع عليه عقوبة لأنه ترك قومه، وغاب عن يونس عليه السلام أن النبي مأمور بالدعوة إلى الله فقط، وليس عليه أن تنجح الدعوة أو لا أي أن عليه أن يدعو إلى الله ويترك مسألة نجاح الدعوة للخالق سبحانه وتعالى . وقبل أن يخرج يونس من القرية توعدهم بالعذاب الأليم بعد ثلاث إن لم يؤمنوا وبعد أن خرج من بينهم وتحققوا من نزول العذاب بهم، قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة . فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذاب الذي دار على رؤوسهم كقطع الليل المظلم ولهذا قال تعالى: "فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَما آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الْحَيَاةِ الدنْيَا وَمَتعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ" (سورة يونس: الآية 98) . ابتلاء مخيف ويقول عبد اللطيف عاشور في كتاب "قصص الأنبياء": "وهنا كان يونس عليه السلام قد وصل إلى شاطىء البحر وهو غاضب، وركب عليه السلام السفينة ليبحر بها بعيداً عن القوم الظالمين، فغلبه النوم من شدة التعب وما كاد يستسلم للنعاس، حتى حان وقت المد، ورفعت السفينة حبالها، ومضت السفينة طوال النهار وهي تشق مياهاً هادئة وتهب عليها ريح طيبة، وجاء الليل على السفينة، وانقلب البحر فجأة، وهبت عاصفة مخيفة كادت تشق السفينة، وبدأت الأمواج تهبط وترتفع وتكتسح سطح المركب فكادوا يغرقون، وزاد عنف الرياح وهب يونس عليه السلام فزعاً من نومه، وصعد على سطح السفينة، وقرر الركاب أن يقترعوا فيما بينهم لكي يقفز أحدهم في البحر لتخفيف من حمل السفينة، وكان يونس عليه السلام يعرف أن هذا تقليد وثنى من تقاليد السفن عندما تواجه العواصف . ومن هنا بدأ بلاء يونس ومحنته، حيث جاءت القرعة عليه، فلم يسمحوا به لمنزلته ومكانته بين القوم، فأعادوا الاقتراع مرة ثانية، فجاءت على ذي النون مرة ثانية، فشمر يونس عليه السلام ليخلع ثيابه حتى يقفز في الماء، فأبوا عليه ذلك، وأعادوا القرعة للمرة الثالثة فلم يخرج إلا اسم النبي الكريم، وهنا علم يونس أنه قد أخطأ حين ترك قومه غاضباً وبغير إذن من الله، وظن أن الله لن يوقع عليه عقوبة، والآن فإن الله سبحانه وتعالى يعاقبه فقفز يونس في البحر ليخفف من الحمل، وهو موقن بأن أمر الله نافذ، ومشيئته لا راد لها سبحانه وتعالى" . نهاية المحنة ويقول أحمد بهجت في كتاب "أنبياء الله"، أوحى الله إلى الحوت، الذي كان يلاحق السفينة بأمر الله، أن يبتلع سيدنا يونس كما أوحى إليه بألا يصيب يونس ولا يهشم له عظماً وفوجئ يونس بنفسه في بطن الحوت، وتصور أنه مات فحرك حواسه وجد نفسه يتحرك فأيقن أنه حي، كان يونس منكفئاً على وجهه في بطن الحوت يسبح الله، وأيقن أن الله ابتلاه ليعرف مدى صدق إيمانه، فبدأ يسبح الله رب العالمين: "اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" . وقضى يونس عليه السلام أياماً وليال في بطن الحوت ليس له من عمل إلا التسبيح والذكر والدعاء والتضرع والرجاء لله سبحانه وتعالى كي ينقذه من هذه الظلمات . فاستجاب له ربه ونجاه من الغم حيث أمر الحوت بأن يقذف به في العراء على ساحل البحر . وأطاع الحوت أمر ربه وقذف يونس إلى البر فوق جزيرة عارية وكان جسده ملتهباً، فلما أشرقت الشمس ولسعت أشعتها جسده كاد يصرخ من الألم لولا أنه تماسك وعاد للتسبيح وأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين وهو نبات أوراقه عريضة تقي من الشمس وأوحى الله إليه وأفهمه أنه لولا التسبيح والدعاء لظل في جوف الحوت إلى يوم القيامة" .