أخي يا صاحب القرآن، إن طفلاً في جوفه القرآن أو شيء من القرآن، أو طفلاً يحب القرآن، لهو نور في الأرض يتحرك وسط الظلام الأخلاقي الذي يسود أيامنا الحالية، وصرنا نخشى اتساع رقعته في الأعوام القادمة. وإذا كان الإمام أحمد -رحمه الله- قد اعتبر زمانه زمن فتن؛ لأن الريح كشفت جزءًا من كعب امرأة رغمًا عنها، ورآه هو من غير قصد، فماذا نقول عن زماننا؟! بل كيف نتصور حال الزمان الذي سيعيشه أبناؤنا؟! وإذا كان المخرَج من هذه الفتن هو التمسك بكتاب الله - تعالى - وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فما أحرانا بأن نحبب القرآن إلى أبنائنا، لعل القرآن يشفع لنا ولهم يوم القيامة، وعساه أن ينير لهم أيامهم، ولعل الله -تعالى- ينير بهم ما قد يحل من ظلام حولهم. ويأتي تحبيب القرآن الكريم لنفوس أبنائنا على المراحل التالية: 1- مرحلة الأجنة: في هذه المرحلة يكون الجنين في مرحلة تكوين من طور إلى طور، ولك أن تتخيل جنينك وهو ينمو ويتكون على صوت القرآن المرتَّل، وسماع الألفاظ الإسلامية الجزلة التي تكون في الحوارات بين الأطراف التي تتصل بالأسرة، فلقد أثبتت البحوث والدراسات المتخصصة في علم الأجنة أن الجنين يتأثر بما يحيط بأمه، ويتأثر بحالتها النفسية، حتى إنه يتذوق الطعام الذي تأكله وهي تحمله، ويُقبل عليه أكثر مما يُقبل على غيره من الأطعمة، كما أثبتت الأبحاث أن هناك ما يسمَّى بذكاء الجنين، أما أحدث هذه الأبحاث، فقد أثبتت أن العوامل الوراثية ليس فقط هي المسؤولة عن تحديد الطباع المزاجية للطفل، ولكن الأهم هي البيئة التي توفرها الأم لجنينها، وهو ما زال في رحمها، فما تشعر به الأم من راحة وسكينة بسبب الاستماع إلى القرآن أو تلاوته ينتقل إلى الجنين، بل ويتأثر بالقرآن، ليس في هذه المرحلة فقط، وإنما في حياته المستقبلية أيضًا. كما أثبتت التجارب الشخصية للأمهات أن الأم الحامل التي تستمع كثيرًا إلى القرآن، أو تتلوه بصوت مسموع، يكون طفلها أكثر إقبالاً على سماع القرآن وتلاوته وتعلُّمه فيما بعد، بل إنه يميزه من بين الأصوات، وينجذب نحوه كلما سمعه وهو لايزال رضيعًا! لذا فإن الإكثار من تلاوة القرآن والاستماع إليه في فترة الحمل يزيد من ارتباط الطفل عاطفيًّا ووجدانيًّا بالقرآن، مما يزيد من فرصة الإقبال على تعلمه وحفظه فيما بعد، والله المستعان. 2- مرحلة ما بعد الولادة حتى نهاية العام الأول: تبدأ هذه المرحلة بخروج الجنين إلى الدنيا؛ حيث أول محيط اجتماعي يحيط به؛ ولذا فإنها تُعَدُّ الأساس في البناء الجسدي والعقلي والاجتماعي للطفل، ولها تأثيرها الحاسم في تكوين التوازن الانفعالي والنضوج العاطفي، فلا عجب إذًا أن يركز المنهج الإسلامي على إبداء عناية خاصة بالطفل في هذه المرحلة؛ فالطفل في أيامه الأولى وبعد خروجه من محضنه الدافئ الذي اعتاد عليه فترة طويلة، يحتاج إلى التغذية الجسمية والنفسية ليعوِّض ما اعتاده وألِفه وهو في وعاء أمه. إن الأم التي تُرضع طفلها على صوت ندي يتلو القرآن في بداية عمره، فإن الراحة والسكينة والاطمئنان والحنان التي يشعر بها الطفل وهو بين أحضان أمه، سترتبط في عقله اللاواعي بالقرآن، ومن ثم يُصبح القرآن بالنسبة للطفل فيما بعد مصدرًا للأمن والاطمئنان والسعادة، ونوعًا آخر من الزاد الذي يشبع قلبه وروحه، كما كانت الرضاعة تشبع بطنه وتُسعد قلبه، فإذا كانت الأم هي التي تتلو القرآن مجوَّدًا، فإن ذلك أقرب لوجدان الطفل وأشد تأثيرًا فيه، وأهنأ له ولأمه. 3- في العام الثاني من حياة الطفل: تلعب القدوة في هذه المرحلة دورًا هامًّا ورئيسًا في توجيه سلوك الطفل؛ لذا فإنه إذا شعر بحب والديه للقرآن من خلال تصرفاتهما، فإن هذا الشعور سوف ينتقل إليه تلقائيًّا، ودون جهد منهما، فإذا سمع أباه يتلو القرآن وهو يصلي في جماعة مع والدته -بعد صلاته في المسجد طبعًا- أو رأى والديه -أو من يقوم مقامهما في تربيته- يتلوانِ القرآن بعد الصلاة، أو في أثناء انتظار الصلاة، أو اعتاد أن يراهما يجتمعان لقراءة سورة الكهف يوم الجمعة في جو عائلي هادئ، فإنه سيتولد لديه شعور بالارتياح نحو هذا القرآن، وإذا لاحظ أن والديه يفرحان عند سماع القرآن، فيجلسان للاستماع إليه باهتمام وإنصات، فإنه سيتعلم الاهتمام به، وعدم تفضيل أشياء أخرى عليه. وإذا رأى الأم تستمع بالإنصات إلى القرآن وهي تصنع الطعام أو تنظف البيت، ورأى نفس الشيء يحدث مع والده، وهو يقوم بترتيب مكتبته مثلاً، أو يفعل أي شيء آخر، فإن ذلك يجعله يفضل أن يستمع إليه هو الآخر حين يكبر وهو يؤدي أعمالاً روتينية مشابهة. ومن ناحية أخرى، إذا تضايق الطفل من انشغال والديه عنه بتلاوة القرآن، وأقبل عليهما يقاطعهما، فلا يزجرانه أو ينهرانه، بل يأخذه أحدهما في حضنه، ويطلب من الطفل أن يقبِّل المصحف، قائلاً له: هذا كتاب الله، هل تقبله؟! فإن الطفل سيشعر بالود تجاه هذا الكتاب. 4- منذ العام الثالث حتى نهاية الخامس: أخطر سن في تلقي العادات والتقاليد والمبادئ والقيم، هو سن الحضانة، ثم سن التعليم الابتدائي، والطفل يستطيع أن يحفظ القرآن في سِنِين حياته الأولى، فإذا كبِر فهم معانيه، ولكن بعد أن يصبح لسانه مستقيمًا بالقرآن، فيشب وقد تعلم الكثير من الآداب، بل إن الطفل إذا حفظ القرآن منذ صغره، فإن القرآن يختلط بلحمه ودمه؛ لذا ففي هذه السن غالبًا يمكننا أن نبدأ بأنفسنا تعليمه تلاوة القرآن تلاوة صحيحة، فإن لم يتيسر ذلك، فلا بأس من اختيار معلمة أو معلم يكون طيب المعشر محبًّا لمهنته؛ كي ينتقل هذا الحب إلى تلاميذه، مع ملاحظة أننا لا ينبغي أبدًا أن نُجبر الطفل على حفظ القرآن، أو نضربه إذا لم يحفظ، بل يجب أن تكون جلسة الاستماع إلى القرآن أو حفظه من أجمل الجلسات وأحبها إلى قلبه؛ وذلك من خلال تشجيعه بشتى الصور المحببة إلى قلبه، من مكافآت مادية ومعنوية، وغير ذلك، فإذا كان من يُحَفِّظه يتبع أسلوبًا عنيفًا أو غير محبِّب، فلنستبدل به على الفور إن نهيناه ولم ينتهِ. وهناك ملاحظة هامة جدًّا، وهي مراعاة الفروق الفردية بين الأطفال؛ فإن كان طفلك غير متقبل للحفظ في هذه السن، فعليك أن تمهله حتى يصير مهيأ لذلك، مع الاستمرار في إسماعه القرآن مرتلاً. ومن معالم هذه المرحلة الولع بالاستماع إلى القصص؛ لذا يمكننا أن ننتقي للطفل من قصص القرآن ما يناسب فهمه وإدراكه؛ مثل: قصة أصحاب الفيل، وقصة موسى -عليه السلام- مع الخضر، وقصته مع قارون، وقصة سليمان -عليه السلام- مع بلقيس والهدهد، وقصة أصحاب الكهف، بشرط أن نقول له قبل أن نبدأ: هيا يا حبيبي لنستمتع معًا إلى قصة من قصص القرآن! ومع تكرار هذه العبارة سيرتبط حبه للقصص بحب القرآن، وسترتبط المتعة الروحية التي يشعر بها -من خلال قربه من الأب والأم وما يسمعه من أحداث مشوقة- بالقرآن الكريم. وفي هذه المرحلة يمكننا أن نعلِّمه حب القرآن أيضًا، من خلال الأناشيد التي تكون ممتعة بالنسبة له، فيسهل عليه تذكر معانيها طوال الحياة، فقد ثبت علميًّا أن الطفل يتذكر ما هو ممتع بالنسبة له بصورة أفضل ولمدة أطول. 5- منذ العام السابع حتى العاشر: في هذه المرحلة يمكن أن نشجِّعه بأن تكون هدية نجاحه أو تصرفه بسلوك طيب هي مصحفًا ناطقًا للأطفال يسمح له بتكرار كل آية مرة على الأقل بعد القارئ، أو أشرطة صوتية للمصحف المعلم كاملاً، أو قرص كمبيوتر يحوي المصحف مرتلاً، وبه إمكانية التحفيظ، كما يمكن إلحاقه بحلقة قرآنية في مركز للتحفيظ. ومن الضروري أن نجعل للطفل كرامة من كرامة القرآن الذي يحفظه؛ كأن يقول له الأب: لولا أنك تحفظ القرآن لعاقبتك.. كما ينبغي أن نشرح له أهمية القرآن الكريم للمسلم والعالَم، وكيف كانت البشرية تعيش قبل نزوله على النبي - صلى الله عليه وسلم.