سرد المسيري -رحمه الله- في سيرته الذاتية أحد المواقف الطريفة، فيقول: "كنت أتناول طعام العشاء مع صديقين من المتمسكين بقواعد الدين والفضيلة ثم حان موعد حلقة المصارعة التي تصيبني بالغثيان، وفوجئت بأن الصديقين يستمتعان بالمشاهدة ويأكلان بشهية غير عادية، فسألتهما، لو كان رسول الله معنا هل كان سيوافق على المصارعة الحرة، فسارع صديقاي بالنفي، فسألتهما عن السبب؟ فقالا: لأن المصارعين لا يرتديان مايوهات شرعية! وهكذا نسي الصديقان أن المصارعة تحول الإنسان إلى كتلة من اللحم تتصارع مع كتلة أخرى بمنتهى الشراسة، وتسود حلبة المصارعة قوانين الغابة الخالية تماما من أي مفاهيم إنسانية كانت جوهر ما يدعو إليه الرسول عليه الصلاة والسلام". تضعنا هذه القصة أمام أنموذجين من الرؤية في التدين تنحصر إحداهما داخل الأطر الفقهية، وتتحرك الأخرى في الآفاق القيمية للتدين، يمثل صديقا المسيري الرؤية الأولى، بينما يمثل هو الرؤية الثانية. يتصور المسيري الدين منظومةً من القيم الإنسانية المنبثقة من فكرة الاستخلاف الإلهي للإنسان على الأرض، وهو استخلاف اقتضى تكريمه عن باقي الكائنات بخروج إرادته عن سلطة الطبيعة، وهذا التكريم لا يعد امتيازا فحسب، بل هو عين الابتلاء والأمانة المطالَب بحملها والوفاء بها، ومن ذلك مطالبته بالتأكيد على مغايرته لسواه من الكائنات في دوافعه الصراعية، فالسقوط بها إلى مجرد إعلان التفوق وبسط السيطرة أمر لا يليق بحامل تلك الأمانة الإلهية، فهو اختزال له في كتلة لحم مادية باعثة للتقزز في نفس من يحمل مثل هذا التصور القيمي للتدين، وحملة مثل هذا التصور لا بد أحيانا أن يصطدموا بمن يتعاطون مع التدين بمجرد المناظير الفقهية، أي من لا يَرَوْن أنفسهم مضطرين لإحالة ما يقتنعون به من أحكام دينية إلى فلسفة أعمق تصف العلاقة بين الإنسان ومجالات كينونته، التي يتقاطع فيها بمكونات الوجود الأخرى كعلاقته بذاته وعلاقته بالطبيعة، وكذلك ما وراء الطبيعة من غيبيات يؤمن بها، وينشأ مثل هذا الاصطدام من الطريقة التي يقيد بها كلٌ من النموذجين دوافعه وسلوكه، فحيث يتصرف معتنق النموذج الفقهي وفق ما يحل له وما يحرم عليه فحسب، يتصرف معتنق النموذج القيمي وفق ما يليق وما لا يليق به كإنسان. مثل هذا المنظور القيمي للتدين نراه في عبارة علي عزت بيغوفيتش التي يقول فيها: "عندما أفكر في معنى لعبادة الصوم، فإني أراه متمثلا في قدرة المؤمن على أن يعلن من خلاله تحرره من سلطان الطبيعة والمادة، فالإنسان وحده يستطيع الخروج من حتمية سد العطش والجوع والرغبة الجنسية وأن يمتنع عن ذلك مع وجود الدوافع، بمثل هذا المعنى يمكن أن نقع على حكمة الصوم وليس بالفوائد الطبية له كما يزعم البعض". يؤكد بيغوفيتش في عبارته تلك أن حرية الإنسان من حتميات الطبيعة لا تحصل بغير التسامي عليها من خلال العبودية لله، وهذا يشير إلى النموذج القيمي الذي يفهم من خلاله تدينه. وتنطق على مثل هذا النموذج أبيات محمد إقبال المنقولة إلى العربية بواسطة عبدالوهاب عزام، التي يصف فيها الإنسان قائلا: نائب الحق على الأرض سعيد حكمه في الكون خلدٌ لا يبيد في فسيح الأرض يمشي طاويا عزمه هذا البساط الباليا مقصد من علم الأسما هوَ سر (سبحان الذي أسرى) هوَ ولا تخفى القيمة المحورية للإنسان في الرؤية القيمية للتدين، فهو ما تطوف عليه معاني سائر القيم، ويتسق حوله بناؤها، وعليه فإن من المفترض بالفقه أن يبحث عن تبريره القيمي وليس العكس ولن يكون هذا التبرير بطبيعة الحال إلا من خلال مراعاة الإنسان كقيمة عليا في أحكامه، بل مستمرة في التعالي والنمو مع تقدم الحضارة، ومن ذلك ما يشير إليه المفكر الأميركي المسلم جيفري لانغ بقوله: "عندما أقع أثناء قراءتي للقرآن على تلك الآيات التي تحث على مكاتبة الرقيق وعتق رقابهم فإني أستشعر مطالبتها لي بالمثل بأن أعمل على تحسين ظروف الطبقات الدنيا من العمال والمستأجرين ممن يمثلون الآن نفس ما كان يمثله العبيد تقريبا في الأزمنة السابقة". وبخضوع الفقهي للقيمي -كما يزعم أصحاب هؤلاء الرؤية- تترتب لديهم أولويات التدين ويتمايز عندهم ما هو جوهري ثابتٌ في الدين عما هو عرضيٌ متغير فيه. ولكن المعضلة الأكبر التي تقف أمام تفوق خطابهم هو مشقة استيعابها من قبل الجماهير، الذين يجدون في النموذج الفقهي ما يلبي تساؤلاتهم البسيطة والعملية بشكل مرن، فلأن العملي المتكرر ألصق بذهن الإنسان من النظري الذي لا يلتقط إلا بطول الفكرة، لذلك ما زالت تسود الرؤية الفقهية عند أغلب المتدينين، فالإنسان يكتسب أفكاره في الغالب من خلال عاداته وليس العكس كما قد توهم ذلك أحكام المنطق، ولعل هذا تحديدا ما جعل فكرة (لباس المصارع وعورته) هي الحاضرة في جواب صديقي المسيري، بينما احتجبت عنهما فكرة (وحشية المصارعة ولا إنسانيتها) التي حاول هو استدراجهما إليها.