بيروت: «الشرق الأوسط» لمرة ثانية، مع بعض التعديلات، عادت النساء السوريات النازحات إلى خشبة «مسرح المدينة» في بيروت، ليروين قصصهن. ما يقارب عشرين امرأة، لكل منهن حكايتها ومسارها، الذي يبدو للوهلة الأولى شبيهًا بما عاشته صديقتها، لكن البوح يظهر أن الألم الجمعي يبقى مفردًا وشخصيًا، وأن النساء لهن من عنف الحروب الحصة الأكبر. عمل المخرج عمر أبو سعدة مع محمد العطار (اقتباس ودراماتورجيا) على جمع نساء سوريات نازحات إلى لبنان، ومساعدتهن على البوح. كل منهن حاولت أن تكتب يومياتها، تقول ما يجول في خاطرها، تروي ما حدث لها، وأي مأساة عاشت قبل أن تصل إلى المسرح. هناك من فقدت ولدين، وأخرى مات لها ابن وأخ، وغيرهن توفيت والدة زوجها ولا تزال تتعذب بعقدة الذنب، وهي تعتقد أنه كان بمقدورها أن تنقذها ولم تفعل. محاولة صياغة مسرحية، من عجينة يومياتهن البائسة، لم تكن بالأمر السهل. عودتهن إلى الخشبة لمرة ثانية هذه السنة، بعد عروض السنة الماضية، كانت لهن مشوقًا. ثلاثة أيام جديدة لتقديم «أنتيغون شاتيلا» أعادتهن إلى تجربة فريدة بالنسبة لهن. يوم الاثنين الماضي مع العرض الثالث والأخير، كن يسألن ماذا بعد انتهاء المسرحية؟ هل سنتوقف هنا؟ هل سيحدث لنا كما تفعل معنا الجمعيات الإنسانية التي تأتي لتساعدنا، ثم تختفي فجأة؟ يبدأ العرض المسرحي، مع إحدى النازحات التي يتوسط كرسيها المسرح، تحكي قصتها، ووراءها امرأة أكبر سنا يملأ وجهها الشاشة، تروي هي الأخرى قصة مغايرة، لوهلة تختلط الصورتان والوجهان، فلا تميز إحداهن من الأخرى. الراوية تبقى جالسة إلى يمين المسرح طوال العرض، وراء طاولة، وتقرأ أوراقها التي خطت عليها يومياتها وانطباعاتها عن التجربة المسرحية التي تخوضها مع نساء أخريات. هي تروي أمام الجمهور كيف انخرطت في هذه لمغامرة، وكيف عاشتها مع زميلاتها. كل منهن آتية من منطقة سوريا مختلفة. اللهجات متباينة، لكن النزف مشترك. تدخل النساء ويجلسن على صف من الكراسي في صدر المسرح، يتحولن إلى كورس سوري على غرار كورس المسرحيات اليونانية. تخبر الراوية تكرارا، أن البوح كان صعبًا، الخوف لا يزال مسيطرًا، لبنان ليس بعيدًا عن سوريا، والعودة قد تكون محفوفة بالمخاطر بعد المجاهرة بالرأي.. «كنا نتكلم بصيغة الجمع في البداية، حين طلب منا أن نتكلم، نكتفي برواية العموميات. بمرور الوقت شعرنا أننا نتكلم أكثر، ندخل في عمق الحكايات». اكتساب الجرأة جعل كلا منهن تسأل إن كان بمقدورها أن تكون أنتيغون؟ بطلة مسرحية «سوفوكليس» التي منها انطلق العمل، ليبحثن عن مدى تماهيهن مع هذه الشخصية اليونانية الأسطورية. إحداهن تقول إنها بالفعل تشبه أنتيغون، لكن الراوية لها رأي آخر، تعتبر أنها لا تستطيع أن تمتلك تلك القوة التي كانت لبطلة سوفوكليس.. «ومن نحن كي نتشبه بها. نحن أناس عاديون لا أحد يعبأ لا بتضحياتنا ولا بموتنا. لست ابنة ملك مثلها، ولن يهتم أحد إن مت أو عشت». تتغير وضعيات جلوس النساء المحجبات واللاتي يبقين حفاة طوال العرض. يجلسن تارة في حلقة نصف دائرية، وتارة أخرى في صف مستقيم إلى يمين المسرح ومقابلهن تجلس امرأة أو اثنتان من اللاتي يسردن قصصهن، أو ربما وقفن في خط مستقيم لينشدن كما كورس ملحمتهن. خلفية المسرح شاشة كبيرة، تارة يظهر عليها نص هو طبق الأصل عما ينطقن به، وتارة أخرى تظهر منازلهن المهدمة في سوريا، وأحيانا تتحول الخلفية إلى سواد مضاء بمصابيح مصفوفة أفقيًا على خط واحد، أو وسيلة لإبراز رسومهن التي حاولن من خلالها تصوير ما يتمنين أن تكون عليه أشكالهن وأزياؤهن، وهن يمثلن على المسرح. لا يوجد تمثيل في المسرحية، بالمعنى الدرامي للكلمة، إنهن راويات، يحاولن البوح والاعتراف بما يصعب أحيانا قوله من دون جهد. أكثر من واحدة يبدو أنها جاءت من مخيم اليرموك، بحسب قصصهن. حكاية هذا المخيم الملحمية تحتل جزءًا من العرض. الوصول إلى لبنان وإلى مخيمات تكدس فيها لاجئون قبلهن طال بهم الانتظار، يضيف إلى المأساة أبعادًا أخرى. أحسن العاملون على المسرحية أنهم ابتعدوا عن التوظيف السياسي لأحداث تفوق دراميتها أي انحياز أو موقف آني عابر. ربما كان الإخراج يحتاج إلى شيء من الحيوية، بعض العناصر المحركة، كي لا يبقى القص سمة وحيدة غالبة. ترك النساء يتحدثن في النهاية عن يوميات عادية مع أزواجهن أو من حولهن، والدخول في التلافيف الإنسانية لتفاصيلهن، أنقذ العرض من سوداويته. العبارات الأخيرة لتساؤلات النساء التي كتبت على الشاشة بالتوالي، فيها من الطرافة والظرافة والتلقائية، ما أضحك الجمهور بعد ساعة من الإصغاء للمعاناة القاهرة. أن يعود ريع المسرحية للممثلات وعائلاتهن، شجع الكثيرين على الحضور، حتى أولئك الذين ليسوا بالضرورة من عشاق المسرح، لكنهم راغبون في دعم النساء، والتخفيف عنهن. قد لا تكون هذه العروض التي قدمت أيام 2، 3 و4 من الحالي هي الأخيرة، فالمأساة لن تقف غدًا، لا يزال عند هؤلاء ما يقصصنه علينا، طالما أن الحكاية مستمرة، وسوريا تنزف وتستغيث.