تتحدد الوسائط الشعرية، كما هو معلوم، بشيئين أساسيين على الأقل: الأول هو الوزن. والثاني هو الصورة. بهذا المعنى لا يعني تخلي قصيدة النثر عن الوزن هو تخل عن الشعر بقدر ما يعني تخليا عن أحد وسائطه. ويبقى السؤال: كيف يمكن البحث عن الشعر داخل قصيدة النثر؟. لا أظن أن ذلك يمكن من خلال الوسيط الثاني الصورة. إذ لا شيء يمنع من التخلي عنه هو الآخر. وبذلك يعود الشعر إلى أصله الأول وهو الغناء، ليس كنظام صوتي متمايز أو منزاح عن نظام اللغة العام، وإنما كصوت جمالي للذات في محاورة العالم. هذا الصوت الذاتي لا يمكن تحققه ذهنيا من خلال المهارة في تركيب الصور مهما كانت طبيعتها، و لا من خلال المهارة في نقل التجارب الواقعية إلى الكلمات، ولا من خلال المهارة في استخلاص الأفكار أو تدوير زوايا الأخيلة من القراءات. الشعر يتجلى بدفقة طاقته الأولى إذا كان مسالما، أو بطاقة انفجاره الأول إذا كان محاربا، و بعد ذلك يمكن العناية بتلك المهارات. وما تحتاجه قصيدة النثر حقيقة هو ما يحتاجه الشعر من إبداع جديد للعالم، عالم مغنى سلبا أو إيجابا، ويبرز صوت مبدعه، ولا يكون نثرا لما يمكن نظمه شعرا، أو صدى لترجمات شعرية هي كانت موزونة في لغاتها الأصلية. واللغة الأصلية - العربية في حالتي - تفترض دراية وإحاطة بشعريتها منذ المهلهل وحتى اليوم. وإلا كيف يمكن القول بضرورة قصيدة النثر؟ وأية إضافة جمالية يمكن أن تقولها؟ الخواطر الإنشائية ليست قصيدة نثر. التفاصيل اليومية ليست قصيدة نثر. الكاريكاتور والتنكيت بكافة أشكاله ليس قصيدة نثر. الصور التعبيرية و المدهشة ليست قصيدة نثر. الحكايات القصيرة جدا ليست قصيدة نثر. الحكم والأقوال ليست قصيدة نثر. شروحات الظواهر والبواطن ليست قصيدة نثر. قصيدة النثر لا تكتب وإنما تقال، والتدوين من المهارات التي لا تمايز بين نثر وشعر. الكتابة، صحيح أنها من أحدث الأشكال الأدبية، لكنها ليست شعرا ولا قصيدة. لذلك أعود وأكرر طاقة الشعر هي الغناء. والغناء قد لا يكون سوى «الربيع المقبل من عينيها» بصوت محمد الماغوط، أو «شهوة تتقدم بخرائط المادة» بصوت أدونيس، أو وداعة «الحمار» بصوت سليم بركات. أو الغناء قد لا يكون سوى دبلجة «إشراقات» لآرثر رامبو، أو «أوراق العشب» لوالت ويتمان، أو «أكوان فان كوخ المجاورة» لرينيه شار إلى العربية. لكن الدبلجة صدى، والشاعر صوت.