هل بالإمكان تخيل طاولة مفاوضات اللحظة الأخيرة في العراق، ومن يمكن أن يجلس حولها؟ لنا أن نتصور وفوداً إيرانية وتركية وعربية وأميركية وأوروبية وروسية، وربما صينية، وقد نلمح الرؤساء العراقيين الثلاثة وزعماء الأحزاب الذين دأبوا على الاجتماع وتصنيف بعضهم سنّةً وشيعةً وأكراداً «جيدين» يمكن «التفاهم» معهم، بعد استبعاد «السيئين». ولكن هل يمكن تصوّر حلول عراقية جذرية تنتجها هذه التشكيلة، مختلفة عن الحلول التي أنتجت أعوام 2003 و2005 و2006 و2010 و2014، ولم تجد من يطبقها على الأرض؟ عندما رفع النائب البرلماني مشعان الجبوري راية مجموعات مسلحة شيعية في «الحشد الشعبي» صار «سنياً جيداً» برأي الوسط السياسي والإعلامي وحتى الثقافي الشيعي، بعدما كان «سيئاً»، بل «إرهابياً»، وكذلك فعل العسكري السني السابق وفيق السامرائي، الذي شغل منصب رئيس استخبارات في نظام صدام حسين، لكن إياد علاوي كان «شيعياً جيداً» يوماً ما، في عيون الوسط السياسي والإعلامي والثقافي السني، وكذلك نوري المالكي، وكل منهما صار «شيعياً سيئاً». حيدر العبادي يتمتع اليوم في المعيار السني بدرجة «جيد» مترددة، وكذلك رجل الدين مقتدى الصدر، الذي صنف يوماً باعتباره «عدو السنة»، وقد وجد الشيعة القيادي الشيعي في الجبهة السنية حيدر الملا «شيعياً سيئاً»، ورجل الدين السني المقرب من الأحزاب الشيعية خالد الملا «جيداً»، ونال رجلا الدين عبدالملك السعدي ورافع الرفاعي درجة «السني السيئ». ليس ثمة معادلة ممكنة للتعايش أكثر تعقيداً من إنتاج الطوائف معايير تصنيف لبعضها تقاس بمستوى «شيعية السني» و «سنية الشيعي» وأن يمتد هذا التصنيف إلى داخلها، كأن يصنف السنة زعماء عشائر بأنهم «سنة المالكي»، ويصنف الشيعة زعماء سياسيين معتدلين بأنهم «شيعة داعش». ولأنها معادلة انتقائية، فأي طرف فيها لا يمكنه أن يضع معايير محددة، ومن السهل أن يتم إحداث مناقلة بين التصنيفات استناداً إلى تصريح أو موقف، مع الأخذ في الحسبان أن انتقال شخصية ما إلى خانة «السيئ» لدى الطائفة المغايرة، يمنحه جواز مرور منزه في طائفته ليصبح مؤثراً في قرارها الجماعي. في 2013 وطوال فترة التظاهرات السنية، كان الوسط السياسي الشيعي قد وضع تصنيف «السني السيئ» ليشمل كل القيادات السنية التي أيدت أو شاركت في تلك التظاهرات، ولم يكن يمضي يوم من دون الحديث عن تعاون هذا السياسي أو ذاك أو هذا الشيخ القبلي أو ذاك مع «داعش». حينها أيضاً كان شيخ قبلي وزعيم «الصحوة» مثل أحمد أبو ريشة قد انضم إلى خانة «السنة السيئين» بكل الاتهامات المرتبطة بها لدى الوسط الشيعي، لكنه حاز لقب «السني الجيد» لدى طائفته، وذلك لم يمنع نوري المالكي وبعدما ترك التظاهرات لتنفجر عنفاً مسلحاً، من منحه السلاح وتغيير تصنيفه، فأصبح «سنياً سيئاً» في عيون طائفته و «جيداً» في عيون الشيعة. إلا أن سلاح المالكي حينها «تبخّر»، وقيل إن معظمه حصل عليه «داعش» بطريقة أو بأخرى. ومع بحث الكونغرس الأميركي أخيراً مشروعاً يسمح بتسليح مباشر لـ «العشائر السنية»، كانت الاعتراضات الرئيسية على القانون والتي تصدت لها الكتلة السياسية الشيعية أيضاً ركزت على التذكير بأن هذه الأســلحة ربما تذهب إلى «السيئين»! فالسلاح يجب أن يذهب فقط إلى «الجيدين»، حتى لو كان هؤلاء فاسدين ولا وزن لهم في محيطهم. وللتذكير، فإن إصرار حكومة المالكي طوال سنوات على التعامل مع الوسط السني وفق تصنيف «السيئ/ الجيد»، قاد إلى إضعاف قدراته على إنتاج قيادة سنية قادرة على التفاوض حول المستقبل، وذلك من وجهة نظر بعض المتطرفين الشيعة والسنة مثالياً، وقاد في النهاية إلى تعبيد الطريق لـ «داعش». في المقابل، فظهور «الحشد الشعبي» أنتج طبقة قيادية جديدة لها تأثير مباشر في مسارات الأحداث، ومعظم زعمائها متحدرون من أصول «مليشياوية»، وهم أكثر تشدداً من الطبقة الشيعية التقليدية التي حكمت طوال السنوات الماضية. وكانت تلك مناسبة للأوساط السياسية السنية لتغيير التصنيف السابق، ونقل الطبقة السياسية الشيعية التقليدية التي طالما وجهت إليها الاتهامات إلى خانة «الجيد»، والمطالبة بمحاصرة قيادات الفصائل المسلحة وعزلها عن العمل السياسي، واتهامها بمحاولة الانقلاب على «الشيعة الجيدين». المفارقة أن الشخصيات التي كانت حتى حزيران (يونيو) 2014 تطالب بمنع قوات الجيش العراقي من دخول المدن السنية، باعتبارها «مليشيات طائفية»، صارت تتبارى اليوم في مديح الجيش وتبرئته وتحميل المليشيات مسؤولية أعمال السلب والنهب والقتل بحق السنة، مع أن مقاتلي الجيش والشرطة والأجهزة الرسمية كانوا يرافقونها في كل العمليات الأخيرة. بالطبع، هذه التصنيفات تحمل أدلة طعنها في صميمها، ففرصة العراق في المضي إلى المستقبل موحداً، تتعلق بقدرة أبنائه على إنتاج رؤية وطنية واضحة المعالم، وتكريس قيم العدالة والقانون، وترسيخ روح المواطنة. لكن، إذا ما وضعنا المعايير الوطنية جانباً، وهي مركونة بالفعل منذ أكثر من عشر سنوات، وأهملنا في شكل كامل البحث عن «عراقي جيد»، واستسلمنا إلى القدر الطائفي الذي يحكم بلاد ما بين النهرين، فإن الخطوة الأولى لإثبات رغبة الطوائف المتصارعة سراً وعلناً بالعيش في أي شكل كان على هذه الأرض، تخص التوقف عن تصنيف بعضها والتعامل مع الأكثر تأثيراً في شارعه المضطرب والمرتبك، والأقدر على الالتزام بالحلول التي تقرها طاولة المفاوضات. العراقيون يعيشون في ظل أزمة طائفية عميقة، لا مناص من الاعتراف بها، ومن ثم الاعتراف بعمق وفداحة التأثير الإقليمي والدولي عليها، وأنها قد تفضي بهم إلى التقسيم أو إلى الاحتراب الدائم، أو إلى الخيارين معاً، وربما تقودهم مضطرين إلى إعادة إنتاج قوانين التعايش وفق عقود اجتماعية جديدة، وخرائط دستورية جديدة. واقع الحال أن طاولة المفاوضات العراقية الوحيدة القادرة على إنتاج الحلول في وضع أنهكت فيه الدولة ووقفت على حافة الانهيار، إن لم تكن قد تجاوزتها، يجب أن تتضمن أصحاب القرار الحقيقيين. ويمكن اليوم تصور أصحاب القرار الحقيقيين في الساحتين الشيعية والكردية، استناداً إلى مرصوفة من الاعتبارات الدينية والقومية، لكن الأزمة كانت وما زالت تخص التمثيل المنصف للساحة السنية التي ما زالت تتنازعها القيادات، وتتقاذفها الأهواء والانفعالات.