بو سيف في يونيو/حزيران 1996 عن 81 عاما، بعد مسيرة فنية استمرت نصف قرن قدم خلالها الكثير من الأفلام التي حفرت لها مكانا في ذاكرة عشاق السينما في العالم العربي، وأسس لمدرسة سينمائية جمعت بين الواقعية والرومانسية، وتميزت بالنظرة الاجتماعية النافذة، واعتبره معظم النقاد رائد الواقعية الأول في السينما العربية، وفي مدرسته تخرج الكثير من السينمائيين العرب. وعندما ننظر اليوم إلى تراث صلاح أبو سيف السينمائي نجد أن السمة الرئيسية التي تميز الأعمال الراسخة التي تركها لنا هي تلك المزاوجة الفريدة بين عالمي الأدب والسينما، ربما بفضل العلاقة الإبداعية التي جمعته بالروائي الراحل نجيب محفوظ الذي ساهم في كتابة أفلام أبو سيف التي تتميز بالحس النقدي الواقعي. نجيب وصلاح ويمكن القول إن محفوظ تعلم من أبي سيف تقنيات الكتابة للسينما، في حين تعلم أبو سيف من محفوظ كيف يتناول الواقع من خلال نظرة نقدية. وقد شكل الاثنان معا وحدة ثنائية سينمائية فريدة كانت وراء الأفلام التي اشتهرت بواقعيتها، ولا تزال حية حتى يومنا هذا مثل لك يوم ياظالم (1951) وريا وسكينة (1953) والوحش (1954) وشباب امرأة (1956). وقد وصل تعاون هذا الثنائي إلى ذروته في فيلم الفتوة (1957)، الذي يحلل ببراعة الاستغلال الاجتماعي من خلال خصوصية العمل في سوق كبير للخضراوات في أحد الأحياء الشعبية بمدينة القاهرة، وكيف يتم توارث نظام الظلم والقهر من جانب الكبير على الصغير، وكيف يبقى الناس مسلوبي الإرادة أمام جبروت الطاغية الذي يتحكم في مصائرهم. ولا شك أن محفوظ الذي عرف بموقفه الذي لم يكن مؤيدا لحركة الضباط في يوليو/تموز 1952، كان يسقط الكثير من خلال سيناريو هذا الفيلم على ما يحدث في مصر عموما في تلك الفترة. ترجع أهمية أبو سيف إلى أنه كان أول مخرج في السينما العربية يتمكن من تحقيق تراكم سينمائي مميز خلال سنوات قليلة من العمل في السينما، يتميز بواقعية ما يطرحه في أفلامه من قضايا، بينما آثر من سبقوه الاكتفاء بفيلم واحد واقعي مميز قبل الاتجاه إلى السنيما التجارية السائدة. حدث ذلك على سبيل المثال مع المخرج كمال سليم الذي لم يستطع قط أن يطور تجربته في فيلم العزيمة -الذي أخرجه عام 1939- في أفلامه التالية، كما اتجه المخرج المثقف كامل التلمساني بعد أن أخرج فيلمه السوق السوداء عام 1945 الذي يعد إحدى تحف السينما المصرية إلى إخراج أفلام أقل شأنا لا يتذكرها أحد اليوم. واصل صلاح أبو سيف تطوير أسلوبه من فيلم إلى آخر، صانعا وحده تراثا هاما من الأفلام التي رصدت الكثير من قضايا الواقع بعد الحرب العالمية الثانية، مرورا بمرحلة التغييرات الاجتماعية في المرحلة الناصرية، ثم مرحلة الوعي بعد هزيمة 1967 كما تبدت في أفلام له مثل القضية 68 الذي كان يوجه فيه نقدا لاذعا للتنظيم السياسي الواحد الذي كان يحكم مصر في عهد الرئيس عبد الناصر (الاتحاد الاشتراكي)، ثم في فيلم حمام الملاطيلي (1973) الذي كان يقدم صورة قاتمة لمجتمع الهزيمة ملقيا اللوم هذه المرة، ليس على السلطة، بل على أفراد الطبقة الوسطى الذين استغرقوا في الهروب من مواجهة ما يحدث في الواقع من تجاوزات، مفضلين النجاة الفردية بلا جدوى. مقص الرقيب وقد تعرض الكثير من أفلام صلاح أبو سيف للرقابة، فقد منعت الرقابة عرض أول أفلامه، وهو فيلم قصير بعنوان نمرة واحد أخرجه عام 1942 بسبب أسلوبه الكوميدي في تناول موضوع الموت. وعادت الرقابة ففرضت على أبو سيف وضع لوحة في نهاية فيلم الأسطى حسن (1952) تقول إن القناعة كنز لا يفنى، كما أصرت الرقابة على ضرورة وضع لوحة في مقدمة فيلم الوحش (1954) تشير إلى أن أحداث الفيلم وقعت في أقاصي الصعيد في الماضي. وفي مدخل فيلم شباب امراة (1956) اضطر أبو سيف إلى وضع لوحة تقول إن الفيلم مهدى إلى كل شاب يأتي من الريف إلى المدينة حتى يتعظ. وواجه فيلم القضية 68 غضبا شديدا من جانب السلطات، فقامت الشرطة بمحاصرة دار السينما التي كانت ستبدأ في عرضه، واعتدى رجال الأمن على أبو سيف بالضرب، ولم يتم السماح بعرض الفيلم إلا بعد تدخل مباشر من عبد الناصر تجنبا لاستخدام منع الفيلم للإساءة إلى النظام. وواجه فيلم حمام الملاطيلي (1973) أزمة مع الرقابة بسبب مشاهده الجريئة التي تعرض للتفسخ الاجتماعي السائد في أوساط الطبقة الوسطى. وقال أبو سيف إن الرقابة رفضت سيناريو فيلم القاهرة 30 (1966) سبع مرات ولم تسمح به إلا في منتصف الستينيات شريطة تغيير اسمه من القاهرة الجديدة- وهو اسم رواية نجيب محفوظ المأخوذ عنها- إلى القاهرة 30. ويصور الفيلم الأوضاع الاقتصادية التي كانت سائدة في القاهرة في الثلاثينيات، رابطا على نحو فريد بينها وبين الفساد السياسي في أجهزة السلطة. وقد أصرت الرقابة على تغيير اسم الفيلم حتى لا يوحي بأنه ينتقد أوضاع القاهرة الجديدة.. أي فيما بعد حركة الضباط في يوليو 1952. ويذكر الباحث الإيطالي كورادو كيارنتين في مقدمة دراسة الماجستير التي أعدها عن سينما صلاح أبو سيف أن الرقابة كانت وراء حذف شخصية مأمون رضوان أحد أبطال الرواية الأربعة، وهي الشخصية التي ترمز إلى عضو جماعة الإخوان المسلمين، لكن أبو سيف قال فيما بعد إن استبعاد هذه الشخصية من الفيلم جاء بسبب وجود أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في المعتقلات وقت إعداد الفيلم، وإنه اتفق مع نجيب محفوظ على ذلك حتى لا يُنظر إلى الفيلم وكأنه يؤيد السلطة في موقفها من الإخوان! كان أبو سيف يهتم كثيرا باختيار أماكن التصوير المميزة، وبالممثلين الذين ساهم في اكتشاف الكثير منهم، وكانت أفلامه تمتلئ بالتشبيهات والاستعارات التي كانت جديدة على السينما، وكان يتصف بالروح العصامية والصبر والقدرة المدهشة على الإنصات لمحدثيه والاستفادة مما يقوله الآخرون من رجالات الفكر والثقافة في عصره. وقد صدرت عنه مجموعة كبيرة من الدراسات والكتب والأبحاث الجامعية في مصر وتونس وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.