منذ عشرين عاماً كانت "سهير" قد بلغت عامها السادس عشر، وتقدم "صابر" لخطبتها ووافقت "سهير" عليه على الفور ومن دون أن تفكر طويلاً في شخصية العريس، فحياتها مع أي إنسان ستكون أفضل من حياتها في منزل أبيها تحت وطأة الفقر الشديد، كما وافق والداها وتم الزواج في حفل متواضع نظراً لإمكانات العريس الأشد تواضعاً، ومع ذلك كانت "سهير" ليلة الزفاف تكاد تطير من شدة السعادة والآمال العريضة في مستقبل سعيد ومرت أيامهما الأولى جميلة والسعادة تغمرهما، رغم ضيق ذات اليد وكل منهما يسعى جاهداً لإسعاد الآخر وسارت بهما الحياة وزادت فرحتهما عندما ظهرت عليها علامات الحمل وبعد نحو عام واحد أنجبت ولدها الأول "معتز" الذي يبلغ من العمر الآن الثامنة عشرة والذي ظل وحيداً فترة طويلة، فقد توقفت عن الإنجاب أكثر من عشر سنوات من دون أسباب واضحة ثم جاءت طفلتها "عزة" التي يبلغ عمرها الآن أربع سنوات، مع الأيام ازدادت مطالب الحياة كما جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن فقد تعرف زوجها إلى مجموعة من أصدقاء السوء وازدادت تدريجياً فترات وجوده معهم حتى عرف الطريق إلى تعاطي المخدرات وتدريجياً أصبح لا يستطيع الاستغناء عنها، فبدأت المشاكل بينهما خاصة عندما فقد القدرة على العمل فهو لا يملك بضاعة سوى عافيته التي كان يعمل بها في سوق الخضار عند التجار لنقل بضائعهم ويحصل على قوته وقوت أسرته يوماً بيوم، حيث يخرج إلى عمله المضني عند بزوغ الفجر ولا يعود إلا بعد أن تغيب الشمس وعقب كل يوم يجمع من التجار ما يجودون به عليه من جنيهات قليلة، وبهذه الجنيهات مع مهارتها كربة منزل استطاعت أن تعيش الأسرة مستورة فقد كانت لا تستريح هي الأخرى طوال اليوم فمنذ الصباح الباكر وهي تدور كالساقية في المنزل من مكان إلى آخر، لكن مع إدمان "صابر" للمخدرات أصبح يفر من اللقاءات الزوجية فهو لا يعود إلى المنزل إلا في ساعة متأخرة من الليل ويكون وقتها مهدوداً لا يريد شيئاً سوى النوم فقط، كما أخرج ابنهما الأكبر "معتز" من المدرسة رغم تفوقه الواضح الذي أشاد به جميع مدرسيه والذي كان يبشر بمستقبل مرموق وألحقه بالعمل في دكان سباك من الجيران، واعتبر "صابر" الأجر الذي يحصل عليه "معتز" كافياً للإنفاق على المنزل وأصبح ينفق دخله كله على المخدرات لكن بعدما ساءت حالته الصحية لم يعد يعمل كما كان في السابق، وبالتالي أصبح دخله لا يكفيه وكان لا بد أن يحصل منها على ثمن المخدرات وهي تلطم وتندب حظها كل يوم وفى النهاية تدفع وإلا سرق منها أي شيء فإن لم تشتره منه باعه إلى أي شخص آخر بأي ثمن . تحت ضغط الحاجة والفقر خرجت تبحث عن بيوت القادرين لتساعدهم في تنظيف مساكنهم وإعادة ترتيبها والعودة آخر النهار بما يجود به عليها القادرون واستطاعت أن تغطي بأجرها من عملها معظم متطلبات المنزل وكانت على يقين أن هذا هو رزق الجنين الذي دب في بطنها بعد سنوات العقم الطوال، ومع مرور أشهر الحمل كان عليها أن ترتاح لكنها تحاملت على نفسها وأخفت آلامها فقد توقف زوجها تماماً عن العمل وظلت تعمل حتى وضعت طفلتها "عزة" التي أضافت إلى متاعبها فمّاً جديداً يطلب الطعام، بينما كان زوجها يرى أن كل ما تكسبه من عملها من حقه ويطالبها بمضاعفة ما يحصل عليه لارتفاع ثمن المخدرات كما أنه أصبح يحتاج إلى مضاعفة الكمية التي يتعاطاها والويل لها إذا رفضت إعطاءه ما يريد، الاعتداء عليها بالضرب والسب أمام الأهل والجيران بأبشع الألفاظ كان أقل ما تتعرض إليه حتى تمنت أن يموت، خاصة بعدما فضحها بين الجيران وأفشى سرها خلال إحدى معاركه معها وعرفوا جميعا أنها تعمل خادمة في البيوت على عكس ما كانت تدعيه بأنها تعمل في إحدى المدارس مما حطم كبرياءها وجعلها تفقد الرغبة في الحياة وضاعت منها كل الأشياء الجميلة حتى الطعام الذي كانت تبذل أقصى جهدها لإعداده، لكنها حينما تجلس مع بقية الأسرة كانت تتركهم يأكلون وهي شاردة في أفكارها التي تدور كلها حول ضرورة الخلاص من هذا العذاب بأي طريقة خاصة بعدما جاءت الطامة الكبرى عندما توسلت إليه في إحدى المرات أن يخفض كمية المخدرات التي يتعاطاها فالطفلة تحتاج إلى الكثير من النفقات، ففوجئت به يتهمها أمام الجيران أن الطفلة ليست من صلبه ولا يعترف بها فهي لم تنجب منذ عشر سنوات فكيف أنجبت الآن! كما أنه سكت عليها فقط مقابل النقود التي يتقاضاها منها فإذا رفضت دفع ثمن المخدرات التي تنسيه همومه والعار الذي جلبته إليه فعليها مغادرة المنزل فوراً وتتركه مع ابنه الذي من صلبه وتأخذ ابنة العار التي جاءته بها من حيث لا يدري، أصيبت بالفزع من اتهامها في شرفها أمام جميع الجيران وكاد يغمى عليها لكنها تمالكت نفسها ودافعت عن نفسها بأنه لا بد قد أصيب بالجنون وأن المخدرات ذهبت بالبقية المتبقية من عقله بينما تولى عدد كبير من الجيران مهمة الدفاع عنها، وطلبوا منه عدم ترديد هذا الكلام المجنون مرة أخرى . رغم بشاعة التهمة رفضت "سهير" الاستجابة إلى نصيحة بعض أهلها بترك المنزل، فهي تعرف جيداً بأنه لن يسعها أي منزل آخر من بيوت أهلها فترة طويلة أو حتى قصيرة فجميعهم يحصلون على قوتهم يوماً بيوم لكن التهمة الفظيعة أصبحت قولاً يردده زوجها ليل نهار لكي يبتزها ويستنزف نقودها إلى آخر مليم حتى فقدت كل قدرتها على الصبر والتحمل، وبعدما كانت في السابق تختلق المعاذير وتخترع المبررات لنفسها حتى تواصل حياتها معه فقد بدأت تبحث عن طريقة للخلاص والانتقام منه على جرائمه المتكررة ووضع حدا لمتاعبها وبعدها تعيش لولدها وطفلتها . عاد "صابر" إلى المنزل في ساعة متأخرة من الليل كما هي عادته يومياً وبعد قليل كان قد استغرق في النوم العميق، وجدت "سهير" نفسها تسير إلى المطبخ وكأنها منومة مغناطيسياً أو كأنها في حلم وأمسكت بالساطور، وعادت إلى حجرة النوم واقتربت من "صابر" الذي كان يصدر شخيراً عالياً ورفعت يدها وهوت بالساطور على رأسه بكل قوتها حتى أنها سمعت صوت العظام وهي تتحطم ومع ذلك فقد حاول النهوض من فوق السرير للدفاع عن نفسه، لكنها واصلت الضربات بطريقة شبه آلية حتى تأكدت من موته تماماً وأنه لن يتهمها بعد ذلك في عفتها التي لا تملك غيرها، شعرت بأنها مؤخراً تخلصت من مصدر تعذيبها وعذابها فقد قامت بالمهمة بكل هدوء وأتقنت عملها كما هي عادتها في كل شيء تقوم به لكنها وقبل أن تفكر في كيفية الخلاص من الجثة أفاقت على أصوات الجيران الذين تجمعوا حول باب المنزل وهم يطرقون عليه بكل قوتهم لإنقاذها من زوجها الذي اعتاد ضربها وإهانتها ففوجئوا به جثة هامدة، لم تتنبه أن زوجها كان قد أطلق صرخة مدوية بعد الضربة الأولى التي سددتها إليه بالساطور على رأسه وكانت صرخته في سكون الليل كافية لإيقاظ الجيران الذين أسرعوا بإبلاغ الشرطة، تم القبض عليها وأحيلت إلى النيابة للتحقيق واعترفت تفصيلياً بالجريمة وأعادت تمثيلها وأفادت بأن زوجها لو عاد إلى الحياة لقتلته مرة أخرى فقد اعتاد ضربها وتوجيه الإهانات إليها للاستيلاء على أموالها بالقوة وفي النهاية اتهمها بسوء السلوك وأنكر نسب طفلته إليه، أمرت النيابة بحبسها بتهمة قتل زوجها عمداً مع سبق الإصرار وأحالتها إلى محكمة الجنايات التي عاقبتها بالسجن المؤبد بعد أن أخذتها بقسط من الرأفة نظراً للظروف التي أحاطت بالجريمة وانتقلت "سهير" من سجن إلى سجن آخر قيوده حديدية لكنها تعتبره أهون من السجن الذي كانت تعيش فيه مع زوجها .